
أكثر بكثير.. هي الرواية الأولى للممثل السوري بسام كوسا. بإمكاننا أن نصنفها كـ (نوڤيلا) كونها رواية قصيرة عدد صفحاتها 136 صفحة من نشر دار نينوى ومتوفرة كذلك بنسخة الكترونية من خلال تطبيق أبجد.
في البداية كم هو رائع أن تقرأ لشخص تعرف صوته، فكيف إذا كان الكاتب متحدثاً ومتمكّناً لغوياً مثل الأستاذ بسام إنها متعة أخرى. لا يوجد داعي لأن يسجل الكتاب بنسخة صوتية بإلقائه لأنك ستسمع صوته وأنت تقرأ. يمكنك أن ترى طبقات صوته من خلال نصه، ستعرف متى يكون جاد في حديثه، ومتى يتهكم ويسخر، ومتى يضحك من شدة الإدراك والسوداوية.
تبدأ الرواية ب (مبروك) وهو الشخص الذي تدور حوله الرواية والتي هي مونولوغ طويل يتحدث فيه عن ولادته ونشأته وحياته وأيامه وعمله. مبروك الذي أنجبته أمه من عامل النجّار منتقمةً من أبيه السكران لأنه يناديها يا عاقر باستمرار! لا تخافوا لم أحرق عليكم أحداث الرواية فستعرفون هذه المعلومة من أول أسطرها. بمجرد ما عرفت فعلتها قلت: “اللعنة عليكِ.. زوجك أهانك، أخلعيه.. ايش ذنب مبروك” لا أستطيع تبرير الخيانات، يملك الانسان دائما حرية الذهاب والبقاء.. الجبناء هم من يخونون.. لماذا هذا الضعف؟ وبعد هذا الحديث الداخلي من أول نصف صفحة قررت أن أُصمت صوتي الداخلي وأكمل القراءة على أن أسمح له أن يتحدث كما يشاء بعد أن أنتهي ولذلك أنا هنا.
مبروك الذي ولد مقهقهاً لا باكياً كالأطفال وكأنه يسخر بضحكه من أبيه العاقر، له خمسة أخوة كادوا أن يكونوا أكثر لولا أن النجار ترك المكان لأجل الزواج! وجميع أخوته الخمسة ماتوا بعمر أقل من سنتين مما عجّل من موت أمه حزناً. أخبره أبيه على فراش الموت أنه يعلم بأنه ليس ابنه وأحبه لأنه البكر وأدخل بمجيئه السعادة إلى قلبه وأنه سامح أمه على الرغم أن فعلها الذي حافظ على رجولته زاده سكراً وقتلاً! كبُر حزيناً فصار يخبئ حزنه في السخرية، وبعد أن جرب العديد من المهن يعمل الآن نسّاج بسط (سجّاد).
أحداث الرواية تدور في فترة الحرب وتناولت مواضيع كثيرة مثل: الهجرة والسفر، تعدد الأديان، المهن التي تتوارثها العائلات، القراءة المستمرة لكل ما تقع عليه العين من نصوص وكتب وهذه سمة ملحوظة لدى السوريين ويتجلى أثرها في فصاحة أحاديثهم دون اجتهاد وكيف أن مبروك دودة كتب رغم أنه لم يكمل الابتدائية. مبروك الذي له رأي مثير للاهتمام في رواية مئة عام من العزلة .. أظنني أفهم الآن لماذا لم أستطع إكمال هذه الرواية، ومع هذا أكملت قصة السارق مبروك. الكثير من الحديث عن الفقر والحرب والظلم والعزلة، الكثير من الفلسفة والسخرية، الكثير من السوداوية والكآبة والتعاسة والألم، الكثير من الحب والأحلام والخيال والهذيان، الكثير من السجائر والقهوة والموسيقى والكتب إنها حقاً رواية قاسية تناسب فصل الشتاء.
هذه الرواية مليئة بتفاصيل حياة يومية واقعية قاسية ورتيبة وبائسة تجمدت فيها الحياة بأرواح ناسها، مليئة بالحوارات العابرة والمؤثرة مع من تعرف أو تصادف، مليئة بالتساؤلات لا الأجوبة، مليئة بالفراغ والتملّك والمصائر المجهولة. مبروك الذي ظنّ أنه وجد ضالته بعمله كنسّاج بسط؛ ترك عمله ليشرع بسرقة مئة عام من العزلة وليقتل من كان يراقبه كل يوم إلى الأبد، ليسطّر في رأس الصفحة عنوان مئة عزلة في العام وأكثر …. أكثر بكثير.
هذه رواية كثيفة وثقيلة بمجرياتها على الرغم من قلة صفحاتها، توثق أثر الحرب على الحياة في سوريا، فهمت الآن لماذا انقسمت الآراء حولها إما أن تحبها أو تكرهها، لم أحبها ولم أكرهها، انتابني ثقل كبير في قلبي بعد أن أنهيتها ولا أستطيع أن أجد صوتي.. شعرت بها كغصّة خانقة في حلق الإنسانية آمل أن يعبر فوقها الماء وتزول.