مراجعة كتاب المشي فلسفة

اخترت قراءة هذا الكتاب لعدة أسباب، أولها أن المشي ضرورة حياتية لي كضرورة الماء لجميع الكائنات الحيّة. ثانياً للمشي حالة كيف ومزاج استثنائية غريبة، أنت لا تحرك قدميك وتمشي فحسب، بل تطوي المسافات بين أفكارك باكتشافك لنفسك ولأفكار جديدة. ثالثاً حالة السعي الفعلية التي تنقلك بها قدميك من مكان لمكان تساعدك في الانتقال من حال لحال، وكأن هذا السعي الحثيث يغيّر تجسده المادي لآخر معنوي أو روحي أو فكري. لا تهم المسافة التي تقطعها أو السرعة التي تمشي بها، بقدر أهمية إحسانك لرفقة المشي والتقاطك لكل الكنوز التي يهديها لك في كل خطوة.

لننتقل الآن للكتاب، المشي فلسفة من تأليف فريدريك غرو ، ترجمة سعيد بوكرامي، نشر دار معنى، يقع الكتاب في ١٨٤ صفحة ويتكون من عدد من المقالات التي تتحدث عن المشي يقارب عددها سبع وعشرين مقال متنوعة فبعضها يتحدث عن المشي وأثره على النفس والأفكار وبعضها يناقش تجارب عدد من الكتاب والمفكرين مع المشي مثل نيتشه، رامبو، ثورو، روسو، كانط وغاندي وغيرهم.

المشي ليس رياضة

يبدأ الكتاب بمقال (المشي ليس رياضة) يفرّق فيه الكاتب ما بين الرياضة التي تتطلب تدريب وجهد ومهارة حتى الوصول لمرحلة الخبرة وما بين المشي. وكيف تحولت الرياضة إلى تجارة ومن ثم محاولات التسويق للمشي بصنع أحذية خاصة به أو بعصي تساعد على المشي في الأماكن الوعرة. الكاتب يرفض فكرة تحويل المشي إلى تجارة ويرى أنّ كل ما يحتاجه المشّاء هو ساقين وأن ينطلق ويتأمل السماء والمناظر الطبيعية الجميلة من حوله.

المشي والحرية

يرتبط المشي ارتباط كبير بقيمة الحريّة، حرية الانفصال من الضغوط والهموم والمتاعب والأفكار. كيف يصل المشّاء بخطواته الطويلة لحالة اتصال مع نفسه ومع روحه قد توصله للهذيان إذا أفرط فيه أو لأفكار خلّاقة مفعمة بالوضوح إذا أفرط بتأمل الجمال من حوله أو قد توصله لحالة من الثمالة والنشوة. يوفر لك فرصة لتنسى نفسك لبعضٍ من الوقت، تخرج فيها من هويتك التي تُعرف بها، من اسمك وعملك وحياتك وكل ما يرتبط بك.. لأنك حين تمشي تكون أنت .. أنت فقط لا أحد آخر متحرراً من أي هويّة.

حتى إذا كنت تمشي لغرض التنزه فقط، سيساعدك المشي في التخلص والتخلي عن كل أنواع العوائق والعوالق التي تعلق بروحك ونفسك وجسدك. هذه الخفّة التي تشعر بها نتيجة تخليك عن كل ما يثقل كاهلك وعدم رغبتك بأي شيء، تخلّصك من الماضي والمستقبل لأنك تتواجد فقط في هذه اللحظة. يجلب لك كل ما تريد بأدنى جهد لأن المشي يعلمك معنى التسليم والتخفف والتوكل.

“سعيداً بالذهاب وسعيداً بالعودة.. إنها سعادة بين قوسين”.

لماذا أنا مشّاء جيد (نيتشه)؟

أحببت هذا الفصل جداً وهو أطول فصول الكتاب، كيف جعل المشي نيتشه.. نيتشه الذي نعرف! “كل الأحكام السابقة تأتي من السرير، أن تكون خاملاً إنها الخطيئة الحقيقية المرتكبة في حق الروح”.

نيتشه المشّاء، مشيه في الهواء الطلق حيث أصبح المشي رفيقه الوحيد أثناء كتابته لمؤلفاته. يتحدث المقال عن مراحل حياته المختلفة دراسته لفقه اللغة، تعلمه لليونانية ومن ثم اهتمامه الشديد بالموسيقى والفلسفة، رحلته مع التدريس الأكاديمي وأثر موسيقى فاغنر السيء عليه، وكيف كانت تثير فيه موسيقى روسيني الرغبة بالرقص وتبهجه موسيقى بيزيه.

معاناته مع الصداع النصفي المستمر ثم ضعف النظر وصعوبة الاستمرار بالقراءة أو الكتابة لمدة لا تزيد عن خمسة عشر دقيقة قبل أن يستعين بمن يقرأ له ومن ثم لجوؤه للمشي بعد أن أخذ عام استراحة من التدريس يستعيد فيه قواه وصحته. مشيه لمدة طويلة وهو يتحاور مع أفكاره في الطبيعة الطلقة وكيف أن كل ما فعله لم يفلح في تحسين صحته واستعاده بصره، فاستقال من الجامعة بعمر الخامسة والثلاثين لتبدأ رحلته الحقيقية مع المشي والفلسفة حتى حين أصابه الجنون المشي وحده من كان قادراً على تهدئته. هذا الفصل رائع ومميز للغاية.. وهذه بعض الاقتباسات منه:

“كثيرون كتبوا كتبهم انطلاقاً من كتب أخرى .. كتبهم مفعمة برائحة المكتبات المغلقة. كيف نحكم على كتاب؟ من رائحته”.

“تتنفس كتب أخرى رائحة هواءًا نابضاً بالحياة، هواء الخارج النقي”.

“إننا لا نكتب باليد فقط، بل لا نكتب جيداً إلّا (بالقدمين)”.

البطء والمشي

السرعة التي تمشي بها تزيد من تسارع الوقت السريع! والتأني والبطء بالمشي يضفي على الوقت بعضاً من الهدوء فتصبح الحياة أطول! كل هذا يحدث لأننا سمحنا لكل ثانية ودقيقة بالتنفس. أسرتني هذه الفكرة عن البطء، يصفها الكاتب بأن البطء هو الالتصاق بالوقت، وكأن الثواني زخات مطر تنهمر على الحجر ببطء فتزيد من تعمّق اللحظة.

المشي والعزلة والصمت..

المشّاء حين يمشي بمفرده هو ليس بمفرده حقاً! بل يصاحبه بمشيه كل من السماء والحجر والطبيعة والشمس والغيوم وفي الليل تصاحبه النجوم. يتحدث الكاتب هنا أنّه إذا كان المشي ضمن مجموعة فأنه لا يصبح مشياً إذا تجاوز عدد أفرادها خمسة أشخاص لأنها ستصبح مثل النزهة أو نقل للمجتمع المدني بكل ما فيه من أحاديث ومجاملات فلا يعود المشي مشياً. بينما المجموعات القليلة يمكن لأفرادها الابتعاد عن بعضهم لمسافات بحسب تسارع خطواتهم مما يجعل كل شخص يستريح من المشي انتظاراً للآخر ويتأمل ويشاهد المكان من حوله. شد انتباهي ما قاله أنّه، حتى لو كان الانسان يمشي بمفرده فهو ليس بمفرده حقاً بل يقوم بإعادة الاتصال بين جسده وروحه. في حديثه عن الصمت فصّل أن الطبيعة وما فيها من جمادات لها أصواتها الخاصة، فالمشي على الصخور ليس كالمشي على الأعشاب أو الثلج فلكل خطوة صوت يميزها. المشي في وقت الفجر والسكون الذي يجتاح المكان نتيجة الهدوء. تحدث عن صمت الليالي إذا ما صادف ونمت مخيّماً أو خارج المدينة تحت النجوم وظلمة السماء. كيف أن لهذه الليالي صوتاً من شدة سكونه يوقظ جميع الكائنات في الثانية صباحاً. يستعين هنا بوصف ستيفنسون الذي أعجبني جداً هل نستيقظ لأن الأرض ترتعش في هذا الوقت أم لأنه نداء قادم من النجوم يبحث عمّن يستجيب له.. نجح بوصف ما أشعر به حين أمشي في ليالي الشتاء.

المشي والأبديّة، الطاقة والحج

بالمشي تنسى العالم الخارجي بكل ما فيه فلا يعود يعنيك أي خبر أو حدث، فالمشي يعيد اتصالك ببهجة الطفولة ودهشة اكتشاف الأشياء من حولك لأول مرة. المشي والطاقة التي تشعر بها من الأرض وكأن الأرض بها نار كامنة لا تفنى تنتقل إليك عبر قدميك وتشابه الدفء الذي تشعر به بصدرك حين تمشي في الشتاء. وكيف أن المشي حافياً كم اعتاد الهنود الأمريكيين يعيد اتصالهم بالأرض لأنها مصدر مقدس للطاقة يتم توارثه عبر الأجيال التي تدفن بها! ارتباط المشي بالحج والرهبنة، عند معظم الأديان رحلات حج لأماكن مقدّسة ليس الغرض منها زيارة المكان المقدّس بل لأنه وسيلة للانسلاخ والتخلي والرحيل عن نسخة قديمة لنسخة أحدث وأجدّ من نفسه البشرية تكون أكثر سموّاً واتصالا بروحه وماهيّتها.

الكتاب به العديد من تجارب المشي لعدد من الكتّاب والمفكرين وكيف ترك المشي أثره على حياتهم. أحببت قراءته جداً، وكتبت عن أكثر ما شدّني به من أفكار حول المشي. الكتاب مسلي وممتع وأضاء لي العديد من المصابيح حول تجربتي بالمشي. أصبحت أكثر فهماً لهذا النشاط الذي مهما بدا للأخرين أنه حركي إلّا أنه فكري وعقلي له القدرة على تطويرك روحاً وفكراً وجسداً.