هذا الكتاب أحدث ضجة بسبب عنوانه الجذاب والمثير للجدل، مما دفع كثير من قرّاءه إلى إخفاء غلاف الكتاب الورقي أثناء قراءتهم له خوفاً من ردود فعل المتلصصين من حولهم! الأب الذي تكره؟ كيف تجرؤ على هذا؟ أمثل هذا الكتاب يُقرأ؟!
كنت قد وعدت بكتابة مراجعة عن هذا الكتاب في التدوينة التي تحدثت بها عن رحلتي في ترسيخ المبادئ وتحديد القيم الشخصية. هذا الكتاب من الكتب التي ساعدتني في وضع النقاط على الحروف، قرأته على مهل على امتداد أشهر بصحبة الورقة والقلم، وقد أعود إليه أو أكتفي بالعودة لهذه المراجعة متى ما احتجت.
الكتاب من تأليف د. عماد رشاد عثمان، يتكون من 310 صفحة، نشر دار الرواق للنشر والتوزيع. يتحدث فيه المؤلِف عن أثر الأخطاء والإساءات النفسية والتصرفات التي يفعلها الوالدين بوعي أو بدون وعي في التربية على نشأه الطفل وكيف تتأثر وتتشوّه حياته بناءًا عليها. أبي الذي أكره ليس المقصود بها الأب، بل Parent الوالد أو الوالدة أو من يقوم مقامهم في غيابهم.
أكثر ما يميّز هذا الكتاب بنظري هو أنه عربيّ التأليف أي أنه ليس من الكتب الغربية المترجمة للعربية، الكاتب من بيئة عربية يعرض بما كتب واقع حقيقي دون أي تورية أو تزييف مما يغلق على القارئ باب الإنكار لما في الكتاب بعذر (بس هذا ما يمثلنا أو ما يمثّل مجتمعنا) أؤمن شخصياً أن هذه العقد المتوارثة لن يحلّها ويساعد بحلها إلا شخص يمثلنا وهذا الكتاب يمثّل المجتمع العربي.
الكاتب يعي جداً أثر الموروث الثقافي والديني في العالم العربي والجمل المتداولة من الأباء التي يساء استخدامها مع أبنائهم لغرض الابتزاز العاطفي فيجبرون الأبناء على التنازل خوفاً من الإثم والذنب وسخط الله مثل: برضاي عليك، الجنّة تحت أقدام الأمهات، أنت ومالك لأبيك، رغم أنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق! لكن الخوف من هذه السلطة الأبوية والعقاب المنتظر هو الدافع الذي يجعل الإنسان يبدأ في سلسلة من ظلم النفس وتأنيب الضمير تمنعه من اختيار مصيره وتحمّل مسؤوليته بنفسه وقد يؤدي به إلى الإلحاد أو التطرف الديني. بسبب خلط العقاب الوالدي أثناء التربية مع العقاب الإلهي كونهم يعكسون بسلطتهم صورة مغلوطة عن الله عز وجل.
الكاتب يعي قيمة العائلة والترابط الأسري عند المجتمع العربي، يعي أن الأباء والأمهات كانوا في أحد الأيام أطفالاً وأنهم قد يعيدون عيش حلقة هم كانوا متضررين منها ولم يكسرونها فينزلق أبنائهم معهم في نفس الحلقة بدون وعي منهم أو نيّة في ضررهم! مما يسبب توارث للصدمات أو المشاعر، دون أن يعرف الشخص لماذا يعاني؟ وقد يكون السبب في هذه المعاناة أمر لم يستطع جده السابع التعافي منه! نعم الصدمات والمشاعر تورّث! معرفة وتحليل طباعهم ونمط سلوكهم قد تساعد في فك العقدة ليس للشخص المتضرر فحسب؛ بل للعائلة أجمع وهنا تأتي أهمية البحث لأجل الفهم والإدراك.

سأتحدث عن محتوى الكتاب بشكل مختصر وسأحاول الإيجاز لأن تشريح هذه السلوكيات ومعرفة طبقات المشاعر المرتبطة بها وتحليلها من الأمور المحببة لي والتي أستمتع بها جداً. الكتاب مقسّم لعدة أجزاء أول جزء أسماه السجن يعرض فيه نماذج لبعض المشكلات التي تعرّض لها البالغين أثناء طفولتهم واستمرار معاناتهم منها وأثرها على حياتهم وتشكّل جزء من مقدمة الكتاب.
الجزء الثاني يستعرض فيه الأخطاء والإساءات وأنواعها من جسدية مثل (الضرب، الصفع، الحرق وغيرها) ونفسية مثل (التنمر، الإهمال، التهديد والتخويف، الهجر، الطرد، المقارنة والتفرقة، الألقاب (العيارات)، الحماية المفرطة، التسلط، السب والشتم، خذلان الوعود وغيرها) والإساءة الروحية مثل: (الإجبار على الصلاة والصيام وقصص عذاب القبر والآخرة) والإساءة الجنسية مثل: (التحرش اللفظي أو الجسدي، التعرّي أمام الطفل، والاعتداء الجنسي وغيرها). كل هذه الإساءات تؤثر على تكوين الفرد وتسبب له جروح أساسية، قسّمها الكاتب إلى أربعة أنواع: جرح الهجر، جرح الاستياء (الغضب)، جرح الصدمة والأمان، جرح الخزي والعار.
- جرح الهجر
يؤكد دكتور عماد أنّ كل إساءة أساسها هو جرح الهجر! لأنه ينزع الأمان من نفس وروح الشخص وأنّ الاحتضان الفعلي والاحتواء هو شعور. غياب هذا الشعور يجعل الشخص عاري ولاجئ مشاعريّاً حتى وإن كان فوقه سقف ووالديه بجانبه وكل احتياجاته ملبّاه. هذه المعلومة استوقفتني كثيراً فكل الأشياء المادية والكلام غير قادر على تعزيز وتجذير شعور الأمان والحماية في الطفل إذا لم يؤكد الوالدين بأفعالهم هذا الأمر له. فهو مثل الفسيلة يتبرعم بجانب النخل لمدة من الوقت ثم ينتزع بسهولة من هذه البيئة ليتجذر بمفرده وينمو مستقلاً دون اعتمادية على أي مصدر تغذوي.
يؤكد على ضرورة التعبير عن الحب والقبول لهذا الطفل دون أي شرط دون ربطه بحسن سلوكه، أو تحصيله الدراسي، أو عمله، أو مهاراته، أو صحته، أو أي سبب قد يؤدي به مستقبلاً لعيش حياة مزدوجة بشخصيات مختلفة كي لا تهتز صورته أمامهم أو أمام المجتمع فقط كي يقبله ويحبه الجميع. بهذه الأفعال يدفعون الطفل لتبعات القلق من أراء الآخرين حولهم وأنهم لن يقبلونه إلا إذا أرضاهم فيكون لهم سلطة غير مرئية عليه، أو الكمالية المفرطة لأنه سيُحب أكثر إذا لم يُخطئ، فيبدأ بصنع أصنام لما يخيفه بداخله تحاكمه وتؤنبه وتجلده ويجلد ذاته فيعجز عن حب نفسه وتقبلها فيعيق من نموه.
بينما الحل بسيط.. أحبّك لأنك أنت كإنسان تستحق الحب، وأقبلك كما أنت بميزاتك وعيوبك لأنّها تشكلك أنت. أنا أحبك وبجانبك ويمكنك أن تثق بي وتعود لي مهما كان الخطأ الذي ارتكبته.. فخطأك ليس أنت، بل هو جزء من تجربتك البشرية على هذه الأرض. مما يجعله في المستقبل محاط بعلاقات إيجابية تعينه وتنفعه ويساعده في الابتعاد عن كل مصدر أذى محتمل.
2. الاستياء الدفين (الطفل الغاضب)
ما يسببه ألم الهجر، الانفصال، الفقد، أو الخسارة قد ينشئ في نفس الطفل غضب مستمر يدفنه الإنسان منذ طفولته عميقاً ويكبته في نفسه لأنه عاجز وغير قادر على التعبير عنه. بينما هو مجرّد شعور مثله مثل الفرح والحزن يمر به كل إنسان فلماذا يُعامل كشيطان يجب قمعه أو يرتبط بقلة الأدب والتربية! هذا الغضب الناتج عن كل الإساءات المسكوت عنها لأنه لم يعبّر عنها في حينها، قد يتحول إلى شتم وسباب إذا كبر الشخص لأنه كبت الشتم بداخله.
قد يفرّغ في أشخاص لا علاقة لهم بهذا الغضب ذنبهم أنهم تواجدوا في المكان والوقت الخاطئ، أو قد يتحول لنمط جذب لأشخاص يثيرون في داخلك نفس مسببات الغضب الأول فتعيشه باستمرار! فقط لأنه لم يسمح لك بالتعبير عنه في حينه سواء للمسيء ليعرف خطأه الذي ارتكبه بحقك أو ممن تحب وتتوقع منهم الدعم والمساندة.
فتبدأ سلسلة الكبت والإخفاء والمواراة فيظن الإنسان أنّه نضج ولم تعد تغضبه تلك الأمور بينما هو يضعها تحت سجّاد أنا كبرت أو تجاوزت دون أن يفهمها ويتعامل معها كما يجب. وتنشط هذه المشاعر في كل مرة يحدث بها أمر يحفّزها. مما يجعلنا في أخر الأمر ندمّر ذواتنا ونخسر أنفسنا ومن حولنا أو نوجهه نحو الوجود والحياة فقط لأننا لم نعبّر عن ذلك الغضب.
الحل أن نسمع لهذا الغضب وننصت له ونتفهمه (فالنار ما تحرق إلا رجل واطيها)، إلى أن يهدأ ويستعيد حالته الطبيعية بدلا من الاستمرار بتجاهله أو تسخيف ما يغضبه والتقليل منه، فيصب الغضب على نفسه وعلى من حوله، أو يسبب له الاكتئاب والعديد من الأمراض الجسدية أو النفسية.
أمّا إذا كبر الانسان وكبر غضبه واستياءه معه فمن الضروري أن يبدأ بالتنفيس الصحي والإيجابي عنه باتخاذ موقف ومواجهة الشخص المسبب لهذا الغضب (ليس كل شخص يواجه، ركّز الكاتب على أهمية المواجهة في حالة الاعتداءات الجنسية بسبب تشابك مشاعر العار والخزي والغضب لدى المعتدى عليه وأنها من خطوات علاجه)، بالكتابة العلاجية، أو بجلسات مع مختص، والأهم هو فهم وتغيير السلوكيات التي يسببها إثارة الغضب القديم الأول والتخلص منه ومن أثاره.

3. الصدمة والأمان
مَن اعتاد على القلق، ظّن أن الطمأنينة كمين. دوستويفسكي
الصدمات المستمرة التي تبقى بدون مواجهة أو طمأنة، تبدأ بزرع الخوف والقلق في نفسك، فحتى حين تكون كل الأمور حولك على ما يرام، ولأن اليقين بالأمان والطمأنينة نُزع منك بناءًا على صدمات لم يهدئ روعك أو خوفك منها أحد. فتعيش متوجساً تنتظر حلول المصائب أو الأحداث السيئة في أي لحظة! مما قد يسبب اضطراب ما بعد الصدمة وشعور باقتراب التهديد دون أي خطر أو مسبب له.
قد يظهر كحالة لهوس مادي إذا ما تعرض الشخص لأزمة مادية، أو هوس بالصحة إذا ما فقدت قريب بمرض عضال، أو الخوف من فوات اختبار ما يصاحبك إلى أحلامك، أو صدمة بفقدان أمر معنوي كان يمثل لك سبب في الحياة فيؤدي لأزمة وجودية وفقدان معنى الحياة. فتصبح أبسط الأشياء أو المعجزات التي قد تحدث معك ويغيّر بها الله شأنك ويساعدك، غير مرئية لك؛ بسبب مقاومتك لهذه الصدمات وتربيتك المستمرة للخوف بداخلك.
إذا لم نجد يد تربت على كتفنا تساندنا وتساعدنا تأخذ بنا من الظلام للنور، سنفقد الأمل بالنجاة أو حل أي معضلة أو مشكلة كبيرة كانت أو صغيرة، سخيفة أو معقدة. أو قد يجعلك تيأس من وجود الناس الخيّرة فتمتنع عن طلب المساعدة خوفاً من كمين سحيق بقي معقوداً في ذاكرتك.
تطرّق الكاتب هنا لشيء مهم، ألا وهو الوالد المثالي، الذي لا يفعل أي خطأ أو عيب، الذي يحاول أن يبني قدوة مزيّفة لأبنائه وكأنه يعيش في المدينة الفاضلة وحده، بينما الإنسان غير معصوم من الخطأ. فيبدأ الأبناء بإخفاء أخطائهم خوفاً من هز صورة الأب المثالي أمام نفسه أو المجتمع فيضرّ الأب بمثاليته المزيّفة نفسه ومن حوله. أو للوالد الذي يشتكي من شريكه لابنه او لابنته أو من أهل الشريك تحت حجة مصاحبة الأبناء وهم في سن صغيرة لأنه لا يجد من يحدّثه بثقه! فيثقل عاهل هذا الطفل بتجارب لا تخصه ولم يعشها قد تؤثر على استقراره ورؤيته وقرار ارتباطه المستقبلي لأنه زرع الخوف وعدم الأمان وشوّه العلاقات في نفس هذا الابن بحسن نيته في الفضفضة.
4. جرح الخزي
الإساءات من الوالدين قد تشعر الطفل بالخزي والعار والذنب، وذلك بسبب استمرار شعور الذنب نتيجة ارتكابه خطأ ما. بينما الحقيقة أنّ الخطأ هو الفعل، وليس الشخص نفسه. مثل لوم الطفل المتحرش به على التحرش فيبدأ بتحقير نفسه ويشعر بالعار بسبب خطأ تعرّض له دون أن يكون مسؤول عنه. أو قبول الإساءات والأخطاء المتكررة من صديق مقرّب أو من شخص يحبه لأنه يظن أنّ هذه هي الصداقة وهذا هو الحب! مما يساهم في تكوين شخصية الضحية، أو اللجوء للانطوائية لأن الشخص يعاني من الرهاب الاجتماعي والخوف من الرفض ويبدأ بالتفكير أنه هو شخص سيء مشوّه عديم الحظ لذلك يستحق كل أمر سيء يحدث معه.
فيبدأ بسلسلة من تصرفات التدمير الذاتي في حياته وعلاقاته وعمله وصحته فقط لأنه يرى أنه يستحق المعاناة والأذى والفشل، وأن أي شيء جيد في الحياة هو بعيد عنه ولا يستحقه! فيصبر على ما لا يُصبر عليه، ويتحمل ما لا يطيق، ويضحّي بنفسه دون أن يشعر، بسبب تراكم شعور الإساءة والخوف وعدم الأمان والخزي في نفسه، مما يؤثر على حياته إلى أن يعي وينتبه للأمر فيقرر البدء برحلة التشافي.
الجزء الثالث من الكتاب يتحدث فيه عن الإساءات واضطرابات العلاقات
أثر النشأة على تكوين قالب العلاقات لدى الفرد يبدأ من التغاضي عن كل إساءة نتعرض لها من محيط عائلاتنا، حتى وإن كانوا أباءنا يحترمون مساحاتنا الشخصيّة! نصمت لأن هذا جدّ أو خالة أو عم أو معلّم فنبدأ بتقليل احترام ذواتنا والانتقاص منها مخدوعين بحجج مثل (تعامل بأصلك، بتربيتك، احترم الأكبر عمراً، هذا صغير لا يفهم، هذا مريض، هذا جاهل، معليش اصبر). يظن الأباء أنهم يربّون أبنائهم على الأخلاق الفاضلة لكن هم يفتحون باب التجاوز والاعتداء وإضاعة الحقوق بالتالي تنشئة أبناء يظنون أنهم (طيبين ومتربيين) بينما هم ضعيفين وهشّين ومملوئين بالسخط والغضب! أو نشأة أبناء متنمرين عنيفين مؤذيين لأنهم تأثروا بهذا المحيط المشوّه بسبب تلوث المفاهيم لديهم.

يوجد نوعان من صدمات الارتباط مع الأهل تسبب تأثير على علاقات الطفل مستقبلاً جرح الغياب أو الإهمال (الخذلان) فيكون الأب أو الأم الغائبة، الثاني جرح الإيذاء أو الإساءة فيكون الأب المؤذي أو الأم المؤذية، وقد يظهر بشكل مزدوج في حياة الطفل.
كل هذه الصدمات قد تؤثر على خيارات الانسان البالغ فيكون شخص متعدد العلاقات أو يخاف الرفض أو يبحث عن الكمالية والعلاقة المثالية. فوبيا الحميمية والقرب، الانفتاح والتعرّي العاطفي والمعنوي لأي شخص وليس فقط الصديق أو الشريك، أو تظهر كعدائية لنبقي أنفسنا معزولين عن الآخرين رغبة بالحماية وخوف من أي علاقة عميقة ووثيقة! أو تظهر هذه الفوبيا كعنف سلبي يتمثل بانزواء الشخص على نفسه وتفضيله للصمت كوسيلة يعاقب بها الآخرين على خذلانهم له ونتوقع منهم أن يفهموا ما بنا دون أي طلب أو حوار معهم أو مواجهتهم.
أثار هذه الصدمات قد تظهر بعدّة أشكال مثل:
البحث عن الحب الخشن
ليس فقط من النساء، بل حتى من الرجال وذلك بسبب تشوّه مفهوم الحب الأبوي الذي قدّم لهم! فيبحث عن نسخة من أمه أو أبيه لأن هذا هو المألوف له. أضربك لأجل مصلحتك، أقسى عليك لأن الحياة قاسية أو لأن القسوة تعلّم أو لأني أحبك، أحرمك من هذا الأمر لأني أخاف عليك، أصرخ عليك أو أشتمك أو أضربك لأني أحبك أو أغار عليك والقائمة طويلة من التصرفات المؤذية التي نقبلها على أنفسنا بسبب الاعتياد على الألم والأذى بينما هي إساءات نفسية ومعنوية وجسدية قد تؤدي لاختيارات خاطئة للزوج أو الصديق أو أي علاقة! أو تساهم في تكوين شخصية مازوخية أو سادية تقبل العنف أو تمارسه. أو يكبر ليظن أن العلاقات المليئة بالحب والدعم والمساندة والهدوء والأمان والطمأنينة خاطئة بسبب تشوّه مفهوم العلاقات لديه.
الإساءة والتعاطف
تشوّه التعاطف لدينا إما ينشئ شخصية قليلة التعاطف (متبلدة الحس، استغلالية، انتهازية، ونرجسية) أو شخصية شديدة التعاطف (إمباث) تضع أقدامها في حذاء كل شخص وتشعر بالجميع عداها!
محدّثتكم إمباث تعلّمت بالطريقة الصعبة كيف تسيطر على تعاطفها! لم اكتشف شدّة هذا التعاطف إلا بسبب الاستغلال والابتزاز العاطفي من بعض أفراد العائلة والأصدقاء، فتعلمت الفرق بين (السيمباثي) و(الإيمباثي)! فصرت لا أضع قدمي في حذاء أي شخص لا يضع قدمه في حذائي! لأن “المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين” أو كما تقول صديقتي (في أحزانكم مدعيّة وفي أفراحكم منسيّة) ليس من الأنانية، بل لأن الحياة أخذ وعطاء، وتحتاج التوازن في كل شيء؛ حتى في مشاعرك التي تقلل منها دون أن تدرك حين تقدمها بإخلاص لكل من (هبّ ودبّ) هي غالية وثمينة ولا تقدم إلا للصفوة.
التلاعب في العلاقات
يلجأ البالغين للتلاعب والحيل في علاقاتهم بوعي أو بدونه خوفاً من الوضوح والصراحة وتجنّب المواجهة، الرغبة بإرضاء وكسب الجميع، الاستغلال لمن حولهم في الحصول على ما يريد دون تقديم أي شيء، اللجوء للتهديد بالرحيل والهجر، إسقاط أخطائه على الآخر، تسوّل الدعم بالابتزاز، اللوم الذاتي، التذاكي، التجاهل، محاولة تربيّة الطرف الآخر وكأنه طفل أو جاهل لا يفهم وغيرها.
كل هذه المشاكل تحل بالمواجهة ومشاركة الحقيقة كما هي.. ما يخيفك، ما ينقصك، ما تحتاجه أو ما يؤذيك من تصرفات التي قد تؤثر عليك وتسبب رحيلك والتي قد يكون الطرف الآخر لا يعلم بها! فتترك لأنك تخاف أن تترك أو لأنه سيتوقف عن حبك في يومٍ ما أو لأي سبب كان. كلها بسبب تزعزع الأمان والثقة في طفولتك أو من علاقات شكّلت ثقلها في تكوينك.
الحكم على الآخرين
وهذه من أكثر الألعاب التي يمارسها مُدّعوا التواضع! يمارسون فيها استعلائهم الأخلاقي كأن يقول (الحمد لله الذي عافانا مّما ابتلاه!) أو ما شابهها من جمل على ما لا يرضونه من تصرفات أو أخلاق، بغطرسة وكبر (ايغو) -يوجد فرق شاسع بين الكِبَر والكبرياء ابحثوا عنه- يسقطون ما تعرّضوا له من عقد على الآخرين وينصحونهم بدون داع أو طلب فيمارس دور المصلح الاجتماعي وكأنه خالي من العيوب! أو لأنهم يجلدون ذواتهم ويلومونها على تقصيرهم بحق أنفسهم أو عملهم يزداد تحقيرهم وتقليلهم من شأن الآخرين وانتقادهم لمن حولهم دون أن يفعلوا شيء مُستحقّ لهذه المعاملة لأنهم غاضبين من أنفسهم. ويوجد هنا فرق كبير بين تقييم الآخرين على ما يفعلونه بحقك واتخاذك لموقف منهم كنتيجة لأفعالهم معك، وبين توزيع الأحكام المجحفة غير المستحقة على من حولك. الأولى ضرورية والثانية مرضيّة.
لعبة دور الضحيّة
وهي من أكثر أنواع التلاعب انتشاراً، يكرر بها الإنسان على من حوله المشاغل والمسؤوليات والأعباء التي لديه، يمارس بها دور أنا محور الكون ويبتز الناس عاطفياً بها لاستمالتهم والتغاضي عن أخطائه ومراعاته وتحمّل مسؤولية قراراته وربما حياته نيابة عنه! فيثقلون عواهل من حولهم بسبب ادعائهم العجز أو عجزهم وقلّة حيلتهم.
البعض يمارس هذا الدور بوعي منه ويستفيد منه والكثير بدون وعي لأنه هذا ما تعوّد عليه وألفته نفسه ويشعر بالأمان من خلال هذا الدور! فيندب حظه ويشفق على نفسه أو يسقط على نفسه، أو عائلته، أو زوجه، أو عمله، أو مجتمعه سبب كل المصائب والمشاكل التي تحل عليه. فقط لأنه منهزم ومستسلم يرفض أن يرى الواقع والحقائق ويخشى من الالتزام وتحمّل مسؤولية نفسه وقرارته وأخطائه وحياته. لعبك لدور الضحيّة قد يجعلك تكون طرف في علاقات مؤذية واعتماديّة تتكّل بها على من حولك.
الاستحقاق
كل هذه الصدمات قد تؤثر على الاستحقاق، فيخجل الشخص من طلب ما يستحقه أو يحتاجه سواء مادي، معنوي، عاطفي أو غيره. نسمع كثير عبارات مثل (أنا لحالي أقدر، الله لا يحوجني لأحد) فتجده يربط شعور العار والإهانة بإظهار احتياجه للآخر، فيتوقع منه معرفة احتياجاته بنفسه! لأنه طلب المساعدة أو أظهر احتياجه في يوم ما ولم يلبّى. فيطوّر سلوك مغاير فتجده لا يتأخر ولا يتردد بمساعده غيره، أو يفضّل العطاء على الأخذ ويعطي الأخرين دون أن يطلبوا لأنه لا يرضى لهم شعور الإهانة والذل! ربما إذا كبر يطوّر سلوك مراوغ يكثر فيه من الكذب واللف والدوران على أن يكون واضح في طلب ما يريد.
ادّعاء التواضع والزهد، رفض الثناء والمديح، رفض المساعدة من الآخرين، الاعتذار القهري فيكثرون من الاعتذار للآخرين على أخطائهم أو حتى على إزعاجهم لهم وكأنهم يعتذرون على وجودهم بالحياة! حتى في شكرهم لك تشعر بأسفهم، فقط لأن الثقة بالنفس مهزوزة. ويرون أنفسهم غير جديرين ولا يستحقون ما هو رائع وجيّد. التلاعب والعبث في الآخرين وبخسهم حقوقهم لأي سبب كان أمر غير مقبول، واقتبس هنا من الكتاب:
“إن الحق في التقدير حق إنساني أصيل، لا يمكننا الترفع عليه، ادعاء للزهد غير الواقعي والذي لن يكون أبداً صادقاً. هناك حاجة نفسيّة أصيلة لدى كل انسان في أن يُرى، ويُقدّر ويُشكر له جهده.”
ومن ملاحظتي الشخصية عادة ما يقع الأشخاص الذين لديهم ضعف استحقاق في فخ من يلعبون دور الضحيّة!
لعبة التحليل
التحليل من الألعاب التي يمارسها الهاربون من أنفسهم، يحللون تصرفات وسلوكيات من حولهم ليفهمونهم ويغرقون في تفاصيلهم، بدلاً من تركيز جهودهم على فهم أنفسهم ومعرفة دوافع تصرفاتهم وسلوكياتهم. كل هذا التحليل المفرط لمن حولهم؛ بسبب خوفهم وعدم قدرتهم على مواجهة أنفسهم. ويكون هذا نتيجة لجرح رفض تعرضوا له في طفولتهم، فيأخذ قبعة الناصح، الوصي، المرشد للجميع. يوصف عادة بإنه اجتماعي منفتح على الآخرين لكنه هو أشدّهم عزلة وانزواء! هذا الشخص يكبر فيرفض كل محاولات الاقتراب منه المعنوي أو الجسدي، أو طلب المساعدة، ويخشى من البوح والانفتاح العاطفي والشعوري للمقربين منه خوفاً من تكرار تجربة الرفض.
التعافي
وهو الجزء الأخير من الكتاب وسأحاول أن أختصر أهم النقاط التي تناولها هذا الجزء والذي يشكّل نصف الكتاب

البوح ورواية القصة
يستحيل أن تتجاوز أي أمر أو موقف إذا لم تحك عنه، حيث أن الحديث عنه ومواجهته والاعتراف بحدوثه هو أول خطوة في حل أي مشكلة. الهرب وإقفال الملفات وادّعاء بساطة المشكلة وتسخيفها وطلب تجاوزها هو عبارة عن تأجيل العاصفة وتضخيمها إلى أن تصبح تسونامي أمامك ويبتلعك. لأن الدماغ يحميك من تكرار الأذى بإحياء ألم وشعور هذه الذكرى المستمر في ذاكرتك، مثل أول مرة لمست بها كوب شاي ساخن واحترقت فكوّن جهازك العصبي استجابة لها المؤثر وصُنعت لديك ذكرى تمنعك من لمس أي كوب ساخن دون حذر. لن تستطيع إخراج العبرة من أي موقف تأذيت منه إذا اختبأت وراءه ودفنته. تأتي أهميّة البوح في إعطاء فرصة للطفل الداخلي الذي تم إسكاته، بالنمو بالتعبير التام عن شعوره حتى يكون إغلاق الملف صحيّا وشافياً. هذا البوح قد يكون بالكتابة أو بالحديث لصديق تثق به، أو بالرسم، أو لطبيب أو لمعالج.
المخرج من الأمور.. عبرها
يؤكد هنا دكتور عماد أن التشافي من أذى أي علاقة لا يتم إلا من خلال علاقة أخرى!
التعافي لا يتم إلا من خلال التواصل بالآخرين الذين بهم تكتشف مواطن الخلل في تركيبتك، يصعب الشفاء بشكل تام إذا ما كان الشخص يتجنب البشر ويبقى بمعزل عنهم. مرور الوقت لا يحل أي شيء.. مروره دون فعل أي شيء يميت جزء منك ومن الآخر. لا يحصل التعافي التام إلّا من طريق العلاقات القوية الحميمية مع الأصدقاء أو الشريك. يؤكد مرة أخرى على ضرورة الحديث وعدم التجاوز دون الوقوف عند المشكلة وفتح ملفها، والتعبير عن المشاعر وعيشها مرة ثانية دون تأجيل للحزن الذي سيفقدك اتزانك النفسي.
ذكر ثلاثة أنماط مرضيّة يلجأ لها البالغين للهرب من كل أمر يربكهم: الاجتناب، التجاهل (انتظار سقوطها وتلاشيها بالتقادم ومرور الوقت)، والتلاعب! يؤكد هنا أن المواجهة بشجاعة وصدق رغم ما فيها من ألم إلّا أنّها أسهل من كل الجهد المبذول في اللف والدوران من أصغر الأمور لأكبرها لأنها ستعيدك لنفس المكان.
مراحل التعافي من الإساءات
- الإنكار
قد يجد الإنسان نفسه محصوراً في دور يلعبه منذ ولد دون أن يدرك (المنقذ، الضحيّة، كبش الفداء، المتمرد، المصلح، السنّيد، الاسفنجة، وغيرها من الأدوار) مما يؤثر على سير حياته وقرارته سلباً بشكل لا يمكن توقعه!
هذه الأدوار تأسر مؤديّها وتجعل خروجه منها صعباً له أو لمن حوله ممن اعتاد عليه بأداء هذا الدور، لذلك تذكر أن تكون أنت .. بحقيقتك الكاملة. المنقذ يحتاج المساعدة أحياناً، والمصلح لا يعرف كيف يُصلح الأمور دائما، والاسفنجة تمتلئ ولا تعد قادرة على تحمّل الأسى.
الإنكار لا يأتي فقط بعدم استيعاب حصرنا في دور محدد، بل الإلغاء الذهني لوجود الإساءة أو حدوثها وذلك عبر الذاكرة الانتقائية كنت قد كتبت عنها من قبل هنا. هذا الإلغاء يوهمك بتجاوز الأذى أو حتى تحملك مسؤولية تعرّضك له! فتكبت شعورك تجاه هذه الإساءة بينما الجرح لا زال ينزف بداخلك وقد يظهر كأعراض وأمراض جسدية أو اضطرابات نفسية لأنك ترفض المواجهة والاستماع حتى لنفسك.
وقد يكون الإنكار بصورة التبرير المؤذي، الذي نقوم فيه بتبرير أخطاء المعتدي والمخطئ ونسرف في اختراع الأعذار له لنتحرر من إساءته ونسامحه! يؤكد الكاتب أن التفسير لا يساوي التبرير، وأن التبرير المبكر هو إنكار ومحاولة التفسير المبكر كذلك من إنكار المشكلة. حيث يستلزم عيش القصة ومشاعر الغضب والتعامل مع الألم والأسى على ما حدث وفرض الحدود بعد ذلك يأتي التبرير والمسامحة والغفران. أما إذا سبق التبرير كل هذا، فهو عبارة عن استخفاف بالأذى وإساءة أخرى تعيق من التعافي والتشافي.
الصفح والمسامحة والغفران المبكر هو عبارة عن هدم وجريمة بحق ذاتك، نحن بشر وليس ملائكة والمثالية هنا مزيّفة ومبالغ بها وستظهر نتيجة الكبت ووضع المشاكل تحت السجاد مع مرور الوقت. كل هذا ينشأ من الطفولة اما لضرورة تربوية من أب أو أم مؤذي أو غائب استوجب القسوة والحزم في غير مكانها، أو أن الطفل هو من يريد أن يُعامل بهذه الطريقة بسبب عناده وشغبه! فينشأ شخص يشكك فاقد للثقة بنفسه، يقع ضحيّة الأقوال اللطيفة التي تناقضها الأفعال المؤذية، يشكك بالإساءة حين يتعرّض لها ولا يستطيع دفعها عنه أو التشافي منها فينشأ لدية تناقض شعوري.
والتناقض الشعوري هو حمل شعورين متناقضين تجاه الفعل أو الشخص نفسه، يحب ويكره، يشعر بالغضب والامتنان بالوقت نفسه. ويصنع هذا التناقض إما بسبب التناقض بين الفعل والقول الذي يمارسه الوالد على الطفل، أو بسبب اضطراب شعور الطفل تجاه والديه فالشعور بالحب تجاههم فطري وحين يتعرض للإساءة منهم يختلط الحب بالغضب أو الخوف أو بالكره.. فيختلط شعور الأمان لديه بسبب الازدواجية التي تعرّض لها فيسبب له انقسام وصراع داخلي يمتد لنظرة الشخص لنفسه.
هذا التناقض يؤدي لتشويش وتقلّب في الحالة المزاجية، والصورة الذاتية، وفهم العلاقات لدى الأشخاص اللذين عانوا من هذه الإساءة في طفولتهم من الأهل. صعوبة في فهم نفسه وذاته وما يريد، وهل هو على الصواب أم على الخطأ؟ يؤثر على الاتزان النفسي، وفي رؤيتنا لأنفسنا وللآخرين من حولنا فإما يفرط بالثقة بهم فالبشر لطيفين ورائعين أو يعتبرهم مصدر تهديد ويصفهم بالحمقى والأوغاد، قد ينشأ شعور مزيّف بالتقصير تجاه الوالدين لم أبرّهم بالشكل الكافي فيفرط بالعناية بهم يوم ويكرههم ويعتبرهم مصدر الشرور باليوم الآخر بسبب التناقض المتغلغل بداخله.
هذا الشخص قد يكبر وينظر لشريكه أو صديقه المقرّب بنظرة مثالية أقرب للكمال وأنّه العوض عن كل الألم الذي عاشه وعند أول خطأ من هذا الشخص يشيطنه ويعتبر كل ما عاشه معه عبارة عن خدعة وزيف ويُنزل من قيمته لديه ويعود لمتاهة التأرجح في ذاته ومشاعره وعلاقاته.
هذه الإساءات الوالديّة وإن كانت بحسن نيّة، لغرض تربية الطفل تربية جيدة وجعله شخص ناجح؛ إلا أنه وإن أصبح ناجحاً لن يستمتع ويشعر بطعم نجاحه أبداً. لأنهم صنعوا شخص خائف يفعل كل ما يفعله حتى لا يشعر بالخوف!
ماهي أول خطوة لمواجهة هذا الإنكار؟ هي الخلوة بالنفس، التعامل مع كل ما يظهر من تحت السجاد في هذه العزلة مع النفس، نحتاج أن نصاحب أنفسنا ونعتاد على الصمت الذي يشوشه هربنا المستمر من أنفسنا لنبصرها ونفهمها أكثر.
2. مرحلة الغضب
تأتي بعد سقوط كل أقنعة الإنكار، ورؤية الإساءة كما هي بدون تلطيف أو تورية. فتظهر على السطح كل الخدوش والجراح التي ظننا أنّها التأمت أو لم نكن نعلم بوجودها. يظهر علينا الغضب، يبدأ التوتر بالسيطرة، تزداد شدّة الانفعالات، تتغير معاملتنا ومشاعرنا تجاه كل من أساء لنا يأتي بالمقام الأول الوالدين لأن معظم هذه الإساءات نشأت معنا ومن ثم التعامل مع كل إساءة ومسيء بنيت أذيّته على هذا الجرح.
تفقد هنا القدرة على المجاملة والنفاق والتغاضي على كل أمر صغير أو كبير تجاههم لأن الماء غلي وبدأ بالفوران. الأمر أشبه بالمخاض في ألمه، مدته، وحاجتك للتنفيس والتعبير عنه. وكل هذا طبيعي في أن تعيش شعورك إلى أخره حتى يأخذ التعافي مساره ويبدأ الجرح بالالتئام. قد تضطر للصدام مع من أساء لك ومواجهته، ليعترف بها أو لتوضيح الحقائق التي غابت عنه.
قد تحتاج للانفصال والبعد، تغيير المنزل (خاصة في حالة الاعتداء الجسدي)، الانسحاب لتعيش غضبك بأكمله في هدنة بعيد عن كل شيء. قد يصعب هذا الأمر بسبب ظروفك فتضطر للصمت أو التجاهل وإن كنت شخصياً اعتبرها أخر خطوات الانكار وأول خطوات الغضب قبل أن تتخذ قراراً فعلياً بالتغيير. خذ كل وقتك في البكاء، بالحزن، بالألم، عش هذا الغضب دون أن تهرب منه أو تشعر بالعار منه إلى أن يشفى جرحك. إدراكك لحقيقة تعرّضك للإساءة يحتاج للاحتواء والفهم حتى تتصرف بشكل صحيح لأجلك. تحتاج الشجاعة والإقدام لنفض المخاوف والخوف بعيداً عنك وإن كانت أقدامك ترتعش.
3. وضع الحدود واستعادة الذات
في هذه المرحلة تقتضي وضع الحدود لمنع تكرار تعرّضك لأي إساءة من محيطك الخارجي. تحديد خطوطك الحمراء، ما ترفضه ولا يمكنك قبوله، معرفة ما تقبله وكل ما يوفّر لك الحماية والأمان النفسي والشخصي. إدراك أن حياتك وجسدك وعقلك ووقتك هي ملكك أنت وحدك، ليست ملك والديك أو أي شخص أخر، أنت هو بطلها الوحيد، أن تعيش حياتك فعلياّ كما تريد لا أن تعيشها كردود أفعال على أفعال المسيء لك. ليس من حق أي شخص أن يرحل متى ما شاء عنك ويعود متى ما أراد، كأنه لم يفعل شيء أو أن يتوقع منك أن تستقبله بالأحضان وهو لم يكترث بالأذى الذي زرعه في نفسك.
أما استعادة الذات تستلزم إرادة داخلية قوية لاستعادتها وتنقيتها من كل الشوائب التي علقت بها ولوّثتها وأخفتها عنك. هذه المرحلتين قد تحدث في نفس الوقت أو تسبق أحدهما الأخرى، ما يسهّل هذه المرحلة استيعاب أنماط الإساءات التي تتعرض لها وتتبعها لتحديد جذر منشأها فتقتلعها من جذورها. بعد مواجهة نفسك والمسيء يجب عليك تحمّل مسؤولية تعافيك، ونفض الغبار عنك دون أن تجعل المسيء إليك ومن ساهم في أذيّتك شمّاعة تعلّق عليها استمرار ألمك، إذا أراد المؤذي أن يستمر بأذاه كأنه لم يفعل شيء فليستمر به بعيد عنك وإذا أراد إصلاح نفسه فليعود بعد أن يصلحها. الحسم مهم لردع المتلاعبين والمبتزين العاطفيين ومن يعيش دور الضحيّة ولكل من يلقي مسؤولية ذنوبه وأخطائه عليك.
خلال هذه المرحلة إما أن تواجه السخط والوعيد والتهديد من والديك نتيجة لهذه الانتفاضة وتغيّرك الذي لم يعتادوه، وبدء التدخّل في شؤونك بمحاولة ردعك وهذه هي أصعب خطوة فأثبت. يليها التكيّف ففي كل الأحوال سيتكيّفون مع نسختك الجديدة، ستُحترم حدودك وحريتك، ومبادئك وقيمك وكل هذا يستحق في سبيل وصولك للسلام.
4. التجاوز
هي مرحلة الانطلاقة نحو حياتك الجديدة، تبدأ في التصالح مع نفسك، تقبلها بمميزاتها وعيوبها، ترضى عنها بطبيعتها البشرية كما هي دون أن تغرق في تأنيب ولوم الذات، أو تتجرع باستمرار مرارة الألم. تبدأ هنا بفهم المؤذي والمسيء لك، تكوينه تركيبته التي دفعته لارتكاب هذا الخطأ والإساءة بحقك، تحاول تفسير ما فعله، فهم الطفل المجروح الذي كانه وأنه لم يوفّر له فرص الفهم والتعافي المتوفرة لديك اليوم.
فهم أن أقسى الأفعال حدثت من والدينا بحسن نية وأن هذه الأذيّة لم تكن مقصودة. لتبدأ بالمرحلة الاختيارية وهي المسامحة والصفح عنه بعد أن كان الأمر مستحيلاً لك. وهنا نحن نبحث عن التفسير لنفهمه وليس لنجد مبررات لأذيته واعتداءه. ولا يستدعي السماح أن يبقى هذا المسيء في حياتك، أنت تسامح لأجل أن تمضي وتعيش فليس كل خطأ قابل للغفران إلى حد عودة المياه لمجاريها كأن لم يحدث شيء. لأجل هذا المسامحة المبكرة ماهي إلا تخدير وهرب من مواجهة الأذى الذي تعرّضت أو تتعرّض له. ومن الممكن ألا تغفر ولا تسامح، ومن الممكن أن تعتبره نكرة لم يوجد بهذا العالم ولا تكترث به.

من أكثر ما يساعدك في مرحلة التعافي، هو الامتنان لما تملكه من نعم، ووصى الكاتب في كتابة ثلاثة أمور ممتن لها كل يوم. لي تجربة في كتابة 30 أمر امتنّ لوجودها بحياتي لمدة 21 يوم ضمن برنامج كتابة علاجية، ساعدني في إحياء شعور الرضا والقبول لكل ما رزقني الله به، شعرت أنّي غنيّة بالكثير مما لا يقف عنده الآخرين، هذه الكتابة ليست لإحصاء نعم الله عليك، بل لتذكيرك بالنصف الممتلئ من الكوب، والذي ستجد أنه ممتلئ أكثر.
وجود رفقاء لك في رحلة التعافي مهم ويساعدك كثيراً، الانكشاف والانفتاح العاطفي دون شعور بالعار والخزي وإطلاق للأحكام، مشاركة الأخطاء والتجارب والمساعدة في تخطيها وقبولها، والأهم أن تختار رفقاء هذه المرحلة بحرص وحذر ولا تعطي ثقتك لأي أحد.
الحب، تستطيع بالحب علاج كل شيء! بدءاً بمحبة ذاتك والعناية بها محبة سليمة وصحيّة. يوجد نوع من العلاقات يعرف بالعلاقة الشافية والتي يتحقق بها القرب والألفة والدفء، ويكون أساسها القبول غير المشروط بها ينمو طرفي العلاقة نمواً صحياً بسبب التواصل الحقيقي بينهم بعيد عن التلاعب والزيف والخداع. تكون هذه المحبة غير مشروطة، مستنيرة موجهة لداخلك وحقيقتك وليس لخارجك وما تبدو عليه، والعفوية والتلقائية التي تمكنك من قول ما تشعر به لأنك تشعر بالثقة والأمان. الجميل أنه علاقات المحبة الشافية لا يمكنك أن تصنعها، فهي تلقائية لا تفكر بها بالتجمّل أو الإخفاء أو التوري.. ولا تحدث إلا إذا بدأت بقبول نفسك بحقيقتها المطلقة.
في الختام نحن لسنا مسؤولين عن وجودنا أو ما تعرّضنا له في طفولتنا أو جراحنا أو أمراضنا لكننا كبالغين ناضجين مسؤولين عن الشفاء والتعافي من كل ما يؤثر علينا سلباً. طريق التعافي طويل ولا يمكنك تسريعه، بل هو عفوي وتلقائي للغاية. كل ما علينا فعله هو فتح هذه الملفات ومواجهتها بشجاعة حين يظهر ما يحفّزها ويخرجها على السطح لنتعامل معها بشكل صحيح. وهذه هي حقيقة القبول أن تسّلم وتترك الأمور تسير بانسياب.
حاولت أن أوجز معظم ما جاء بفصول الكتاب الذي أنصح كل شخص باقتناء نسخة ووضعها بعد قراءتها في مكتبته للأبد. هو من الكتب التي يجب أن تكون في بيت، يوجد فيه الكثير من الشرح المفصّل مع أمثلة متنوعة ستساعدك في رحلة الشفاء.
“وألقيت عليك محبة مني ولتُصنع على عيني ” 39 سورة طه.



اترك رداً على Jasmine إلغاء الرد