حدودي السماء

هذه التدوينة بقت حبيسة المسودات لأكثر من أربعة أشهر، كتبتها في أكتوبر بعد أن حدّيت مخالبي في وجه بعض من أراد التسلّق على جهدي! وهذا شيء لا أقبله، ولا أسمح به، ولا أمزح به، ولا أخجل من وضع أصابعي في عين من يقول “فخور إني كنت جزء من هذا العمل دون أن يعمل شيء!”.

أنشرها اليوم بسبب حديث طويل وعميق خضته الأسبوع الماضي مع متدربة بدأت في الإشراف على تدريبها المعملي قبل أن تبدأ رحلتها في الماجستير قريباً. أخبرتني أنها طوال فترة تدريبها أو دراستها عانت مع من يشرف عليها أو يعلّمها حيث أنه لا يوجد لديهم أي رغبة أو اهتمام أو حب لما يعملون! عينهم على الساعة كل يوم حتى يبصموا للخروج، وينتظرون آخر الشهر رسالة إيداع الراتب.. هذه هي قيمهم في العمل! وضعت تساؤلاتها أمامي وقالت: “كيف يقضي الإنسان ما يقارب التسع ساعات في عمل يكرهه؟ كيف يرتضي لنفسه هذا الجلد والعذاب اليومي؟ الرزق في كل مكان.. وأصلاً الرزق مو محصور في المال فقط.. لكن لا تعلّم أحد وأنت كاره شغلك.. بكرا كيف تجاوب الله عن عمرك فيما أفنيته وعلمك ماذا عملت به؟”.

جميلة الروح هذه، بصدق حديثها الواضح على كل جوارحها وضعت يدها على جرحي دون أن تعلم، لم أكن أتوقع أن سؤالي لها بماذا تريدين أن أعلّمك؟ حتى أضع خطة تناسبها في تدريبها أثناء شربي للقهوة، سيجعلني أتفلسف واتذكر هذه المسودة من صباح ربنا!

في هذا الوقت من الحياة والفترة الزمنية التي نعشيها والتي كل ما فيها رأسمالي بحت، يندر أن تجد شخصاً يحرص على أن يعرف نفسه بحق ليكون فرداً كاملاً لا جزءًا من قطيع. يعرف مبادئه وقيمه التي يريد أن يتصف ويعمل بها. يعرف ما يحب، ما يكره، ما يتحمل، وما لا يطيق، يعرف ما يجب وما لا يجب، ما هو مقبول المشي حوله وما الذي يضع حوله أسلاك شائكة تنفض كل من يقترب منها ميلاً للخلف، لأن الكلام سهل.

بدأت طريقي في معرفة نفسي وسبرت فيها مجبرة، متألمة، بعد أن فقدت أحد مصادر الأمان لي وأنا في الخامسة عشرة من عمري! أذكر أنّ أول كتاب قرأته لأغيّر من حالي كان (من حرّك قطعة الجبن الخاصة بي؟) لا زلت أحتفظ بعبارات من الجمل التي أعجبتني من الكتاب. كتبتها بخط يدي وعلّقتها فوق السرير أراها وأقرأها كل يوم حين استيقظ وحين أنام! هدفي الأوحد كان أن أفهم ما أعيش وما أشعر به ولماذا يحدث معي ما يحدث.. فقط لأنجو. لطف الله بي، وغريزة البقاء على قيد الحياة، التي دفعتني حينها لأتمسك بأي قشة تظهر أمامي، هي التي جعلتني أنا وهي التي تجعلني أكتب في هذه اللحظة!

توجد بعض القيم والمعاني التي نشأت عليها منذ ولدت أفخر كثيراً بحرص والديّ على تأصيلها بي وبأخوتي دون أن يفرّق بين ذكر أو أنثى، هي أشياء بسيطة لكنّها تفرق كثيراً! الاستئذان في كل شيء، والشكر على كل شيء، احترام الكبير ورحمة الصغير، السلام والمصافحة بابتسامة وحفاوة، السعي والاعتماد على النفس دون انتظار مساعدة ورحمة الآخر بنا (طالما أنك تستطيع القيام بها بنفسك لا تتعاجز فتعجز) مع تذكيرنا المستمر بضرورة مساعدة ورحمة الآخرين.. خاصّة حين نظن أننا لا نستطيع! (هنا تحدث المعجزات الإلهية). ترك كل شيء أفضل مما كان وليس فقط المكان، حتى في الأكل (أغرفي على قدك) لا تلعب بالنعمة.. والقائمة تطول!

وعلى الرغم أنّ هذه القيم صنعت جزء راسخ بي إلّا أني دفعت ثمن بعضها ولا زلت أدفعه، لأنه فات على والديّ أن يذكرانني بما علمتني إيّاه الحياة ألا وهو احتمالية وجود النقيض: (لن يقابلك كل من في الخارج بمثل ما اعتدتِ، لن يهتم لخاطرك ويكترث به ويعتني به أحد، لن يرحمك كل كبير ولن يحترمك كل صغير، لن يصدقكِ من صدقته أو صادقته، لن يضعكِ أي شخص قبله حتى وإن كنتِ تستحقين، ستتعلمين وضع أنوثتكِ وخجلكِ جانباً لتنتزعين حقوقك بكل ثقة ودون خوف لأنها لن تقدّم لكِ على طبق من ذهب!).

وكما قال أحمد خالد توفيق “اعتقادك أن العالم سيعاملك بلطف لأنك إنسان طيب، يشبه اعتقادك أن الأسد لن يأكلك لأنك شخص نباتي!”. كرهت ماهيّتي وبقيت في شرنقتي طويلاً إلى أن تعلّمت إعادة توجيه هذه الخصال الطيبة بي لمن هو جدير بها ومستحق لها. تعلّمت أن أحمي نفسي من الاستغلال، فتوقفت عن إهدار نفسي.. فقط لأجل أن أبعد الندم عن روحي واستمر بفعل ما أؤمن به لمن يحتاج ويستحق، لأجل أن تتضاعف هذه البركة وهذا الخير في حياتي.

للوصول لحالة التوزان التي تنصف بها نفسك وتعطيها حقها دون إفراط أو تفريط تحتاج أن تقطع طريقاً طويلاً محاولاً معرفه ذاتك، مبادئك، وأسسك أنت الفرد البالغ العاقل اليوم. أن تفلتر كل ما نشأت وكبرت عليه واعتدت عليه وتعيد صياغته لأجل أن تبني أهم علاقة في حياتك وهي علاقتك مع نفسك بناءًا راسخاً وثابتاً على الصواب بأكبر قدر ممكن.. حتى لا تعيد هدمك وبنائك كل مرة. لا بأس أن تبني جداراً وتوسّع نافذة أو تصعد طابقاً جديداً، من وقتٍ لآخر لكن لا أظن أنّي سأخوض في مرحلة الولادة من الرماد هذه مرة أخرى.. أنهكتني التسع شهور الماضية وسأتأكد أن تكون هذه هي الأخيرة؛ لأنه ومهما تشكلت السحب في سمائي بصورة العنقاء فارداً جناحيه وقت الغروب مشتعلاً كما تقول الأسطورة.. سيبقى أسطورة مستحيلة!

هذا التوازن لن تصل إليه قبل أن تحدد أن كل ما تفعله في حياتك هو في الأساس لأجلك أنت وحدك، لتكون اليوم أفضل من الغد وغداً أفضل من الذي يليه. لن تجرؤ على خوض هذا الطريق إذا لم يكن لديك وعي وإدراك أنّك لا تحتاج أن ترتدي رداء الأنا الزائفة إذا كنت تعرف من أنت، ستقبل أوجه الخير والشر فيك، ستقبل ضعفك قبل قوّتك، ستقبل لينك وقسوتك، ستقبل غضبك وهدوئك. ستدرك أنه مهما علِمت نفسك ستجد أنك تكتشف وتتعلم كل يوم عنك أكثر! ستعلم بنفسك أنّ كل ما أنت فيه كبُر أو صغُر هو رزق رُزقت به لا تملكه مهما ظننت أنك تملكه ويمكنك أن تفقده أو ينتزع منك في أي لحظة.

كل هذا البحث الحثيث اللانهائي سيساعدك في الوصول إليك، في تقديرها واحترامها ومعرفة قيمتها، بالتالي تكوين شخصيتك التي تعكس حقيقتك وسماتك وقيمك ومبادئك دون أن تكون أحداً أخر لا تعرفه. أنت وحدك من يعرف الوعود التي قطعتها على نفسك.

لم اعتد على طلب المساعدة من أحد، أساعد دائماً لكن لا أطلب المساعدة! وفي المرات التي طلبتها شعرت أن شيء في روحي يتمزق وأنا أطلب وبالطبع لم يساعدني أحد! اليوم احتجت المساعدة في أمر ما سأدفع مقابله مال ورُفض طلبي! نظرت إلى هذه المتدربة وسألتها شرايك؟ شنسوي؟ وخلال هذه الأسبوعين استطعنا أن نبني صلة رهيبة بيننا فقالت لي: “فاكرة حكاية صديقتي اللي أمس؟ قلت: ايوا. قالت: أنتِ اللي تحددين حدود استطاعتك.. فيه غيره يساعد!” وفعلاً وجدنا من ابتسم قبل أن نكمل الحديث ووافق على المساعدة فوراً ودون مقابل! وبالطبع دفعت لأنه ليس من عمله لكنِ تفاجأت أنه أعاد لي ما دفعت دون أعلم! لكن أول ما سأفعله في الغد إعادة ماله. (فيديو اثنين سعوديين يتهاوشون عند الكاشير)

إدراكك لنفسك وقدراتك وماهيّتك لن تصل له إن لم تكن صادقاً مع نفسك في سعيك نحو تحقيق ذاتك. أن تعرف ما هو الصواب والخطأ لك، لتستطيع أن تؤدي ما هو واجب عليك. نحن لا نملك أي شيء في هذه الحياة من عقولنا، لممتلكاتنا، لكوكبنا، فحتى أرواحنا تسكن أجسادنا مؤقتاً والتي هي كذلك تسكن الأرض مؤقتاً! كل ما يمكننا فعله في هذه الحياة هو السعي المستمر لصقل أرواحنا والسمو بها لأن روحك هي أنت وهي ما سيبقى منك ومعك.

(وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴿39﴾ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ﴿40﴾ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى ﴿41﴾ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ﴿42﴾). سورة النجم.


اكتشاف المزيد من عائشة على القمر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

4 ردود على “حدودي السماء”

  1. صورة أفاتار د. عبدالله بن ياسين بخاري

    رائع جدا تبارك الرحمن،
    للأسف قلّ جدا من يفكر في اكتشاف نفسه اكتشافا حقيقيا، وعلى هدى ومنهج الإسلام،

    Liked by 1 person

    1. صورة أفاتار Aeshah
      Aeshah

      أشكرك على قرائتك وتعليقك دكتور عبدالله
      وأسأل الله أن يعيننا وإياكم على اتباع ما يحب ويرضى.

      إعجاب

  2. صورة أفاتار لا تقبلين القِل وأنتي كثيرة ..🧚‍♀️🎑🎶 – عائشة على القمر

    […] التدوينات لذلك لن أعيد تكرار ما قلت. بداية النهاية، حدودي السماء، رحلتي في ترسيخ الحدود والمبادئ الشخصية.. وبتدوينة يوم […]

    إعجاب

  3. صورة أفاتار يا قرادة.. هالجرادة !!🐛🦗 – عائشة على القمر

    […] وبعد أقل من شهر أصبحت صديقتي! تحدثت عنها في تدوينة حدودي السماء. عبير تشاركني في الكثير من الأشياء منها هذه الهواية […]

    إعجاب

اترك رداً على لا تقبلين القِل وأنتي كثيرة ..🧚‍♀️🎑🎶 – عائشة على القمر إلغاء الرد

اكتشاف المزيد من عائشة على القمر

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على تنبيه بكل تدوينة جديدة فور نشرها على بريدك!

مواصلة القراءة