منذ أن صدر كتاب سنة التفكير السحري لجوان ديديون بنسخته العربيّة وأنا أرغب باقتنائه وقراءته. خاصّة أنه يتناول موضوع لا يتحدث عنّه الكثير وهو التعامل مع حالة الحداد والفقد، عيش مرحلة الحزن والرثاء بكل ما فيها من ألم وترنّح وتعب وانفصال عن الواقع والحياة. لا أحد يعلّمك كيف تعيش مشاعر الحزن، مهما اختلف سبب حزنك؛ وفاة قريب، خسارة عمل، مرض وغيرها ستجد الجميع يتفق على أنها: (مرحلة وستنقضي، جزء من الحياة يمرّ به كل البشر ولا ينبغي تحميله أكثر ممّا يحتمل).. وكأن مرورهم به قبلك يفترض حتميّة تخفيف شدّته ووطأته على نفسك!
في الوقت الذي يزيد منه لأنه وبمجرّد أن ترى من تعرف يغرق أمامك بحزنه، يحاول متخبطاً التشبث بومضات الأمل كقطعة خشب ملقيّة بالبحر، يقفز فوقها فتحمله أحياناً وتهرب من تحته أحياناً أخرى. وأنت بعيد عنه تراه يغرق ولا تملك حتى طوق نجاه تحاول أن توصله إليه. لا أحب أن أرى من أحب بحالة ضعف أو حزن.. لا أحب أن أرى نفسي عاجزة عن المساعدة، أنا التي أجد حلول لجميع مشاكل من حولي وأعجز عن حلّ مشاكلي، يقهرني هذا العجز ويكبّلني.

بحثت عن الكتاب كثيراً ولم أجده، لا بنسخة ورقية ولا بنسخة الكترونية، يئست منه ونسيته تماماً فتركته. ومثل كلّ الأشياء التي تيأس من تحققها؛ بمجرّد أن تترُكها تجِدك! وجدني هذا الكتاب في زيارة لمكتبة جرير في سبتمبر الماضي، في سنة أخذت بها عهد على نفسي ألا أشتري أي كتاب قبل أن أقرأ الكتب الجديدة المتراكمة في مكتبتي أو قبل أن أتخلّص من بعض الكتب التي لا احتاج إليها. وجدني هذا الكتاب؛ ملقيّاً في رف الروايات.. نسخة وحيدة بين الكتب، وكالذي وجد إبرة في كومة قش.. التقطت الكتاب فوراً دون أي تردد! وبالطبع لم أقرأ بعد أيَّ كتاب من كتبي الجديدة ولم أتخلص من الكتب التي لا أريدها! الكتاب من ترجمة شادي خرماشو، يقع في 208 صفحة، من نشر دار المدى.
بدأت بقراءته فور شراءه .. ثم توقفت عند الفصل الخامس منه، لا أعلم لماذا توقفت، لكنِّ لم أستطع مواصلة القراءة! عدت إليه بعد أن سمعت خبر وفاة كاتبته جوان ديديون في أواخر ديسمبر الماضي. بدأت قرأته من أول صفحة وكأني بقراءتي لها في هذا الوقت أعتذر منها عن لقائنا السابق الذي لم يكتمل. بطبعي لا أحب أن أترك أي أثر على كتبي، فلا أخطط على الكتب أو أكتب عليها لا بقلم الرصاص ولا بالحبر.. هذا الكتاب غيّرني! بدايتي مع الشخبطة كانت معه، خططت وكتبت وعلّقت على صفحاته، قرأت بعض مقاطعه مرات عديدة واصطحبته معي في كل مكان. تزامنت قراءتي له مع قراءة كتاب (إن أخذ منك الموت شيئاً رده إليه.. كتاب كارل) للمؤلفة الدنماركية نايا ماريا آيت، وهو كتاب يتكلم كذلك عن الحداد والرثاء سأفرد له مراجعة قريباً؛ مما جعلني أفهم لماذا توقفت عن قراءة عام التفكير السحري.. لأن وقته المناسب لم يحن بعد.
” بسرعة تتغير الحياة.
في لحظة تتبدل الحياة.
تراك جالساً تتناول العشاء وإذ بالحياة التي تعرفها تنتهي.
أي شفقة على الذات تلك!”
بهذه الكلمات تبدأ ديديون كتابها، وهي الكلمات الأولى التي تكتبها بعد وفاة زوجها جون غريغوري ديون، بعد أن مضى على موته يومين أو ثلاثة. موته لم يكن متوقعاً بالنسبة إليها، حدث في 30 ديسمبر 2003 بأزمة قلبيّة حادة، في الوقت الذي كانت ابنتهما الوحيدة كوينتانا غائبة عن الوعي لخمسة أيام في العناية المركزة نتيجة لإصابتها بالتهاب رئوي. بعد عودتهما من المستشفى وأثناء جلوسهم على مائدة العشاء سقط أمامها دون أن تعلم ما الذي يحدث معه.
تقول جوان: “يعجز البشر عن التعامل مع حقيقة أن لكل حياة نهاية ولكل وجود موت” هي التي عملت ككاتبة طوال حياتها عجزت عن الكتابة ووصف ما حدث معها إلى حدّ أنها تمنت وجود غرفة مونتاج تنقل اليوم بما حدث فيه وتستعيد أحداثه، الكتاب الذي كان يقرأه، سفرتهم الأخيرة لباريس قبل شهر من وفاته والحاحه المستمر على السفر كأنه يعلم أنه سفره الأخير.

تصف لحظات اتصالها بالإسعاف، تجهيز ملفه الطبي معها لتساعد الأطباء بالمستشفى، محاولات إنقاذه ونقله، استعدادها للخروج ومن ثم تلقيها لخبر وفاته بهدوء تام وطلبها لتشريح الجثة لمعرفة سبب الوفاة. تقول إنها كانت في حالة من العملية إلى حدّ أنها تعاملت مع كل الإجراءات برباطة جأش لم تستوعبها ” لو كان يراني أفعل ذلك لقال إني قادرة على التعامل مع الموقف كما يجب” هكذا قالت بعد أن استلمت أغراضه الشخصية وأصبحت ترتب العملات في محفظته بحسب فئاتها المختلفة. الوقت الذي استغرقه اسعافه شعرت أنه كان سريع للغاية؛ حين عادت لسجلات بواب المبنى بعد عدة أشهر اكتشفت أن المسعفون بقوا في المنزل خمسة وأربعون دقيقة!
عودتها للتفاصيل الدقيقة وتساؤلها المستمر هل كان يعلم أنّه سيموت؟ اعتاد زوجها الذي هو كذلك كاتب أن يحمل مفكرة معه دائماً، وكان يستعد لكتابة كتاب جديد، وقبل وفاته بأسبوعين طلب منها أن تكتب هذه الجملة بمفكرتها لأنه نسي مفكرته ” في الماضي كان المدربون يخرجون بعد المباراة ليقولوا للاعبيهم “لقد أديتم مباراة رائعة”. أما الآن فيخرجون مخفورين بشرطة الولاية، وكأننا في حرب وهم القوات المتحاربة. إنها عسكرة الرياضة”. أعطته الورقة في اليوم التالي وقال لها: ” يمكنك استخدامها إن شئتِ” ويستمر تساؤلها: هل كان يعلم أنّه لن ينهي الكتاب؟
عودتها للمنزل بمفردها، إبلاغ العائلة بوفاته، ابنتهم التي بين الحياة والموت ولا تعلم عن أي شيء بعد.. أصرّت على البقاء بمفردها في أول ليلة وانتابها إحساس ثقيل كالرصاص حين استيقظت من النوم.. شبهتها بالصباحات التي تستيقظ فيها بعد شجار طويل معه في الليلة السابقة. واستمر هذا الشعور لأسابيع.. وصفت احتياجها للبقاء بمفردها أنها الوسيلة الوحيدة التي ستمكنّه من العودة! وهنا شيء مهم وهي الطرق الغريبة التي يفكر بها الشخص المفجوع، وكأنه بأبسط تصرف قد يمحو آثر هذا الانسان من حياته أو أن يستعيده. لا توجد آلة للزمن يستعيد بها الشخص الموقف ليمنع وفاة محب، إلّا اعتقاده أن التفكير بهذا الشكل قادر على تغيير الواقع وإعادته للحياة مجدداً.
الكتاب دليل مهم لأي شخص يريد أن يفهم حالة كل شخص يعاني من ألم الفقدان أو لأن يتعامل مع مشاعره غير المفهومة والمضطربة. توثّق فيه تجربتها في التعامل مع حالة الرثاء، وبحثها المستمر لكي تفهم ما يحدث معها بطريقة طبية ونفسية، وكيف يلجأ الأطباء لعلاج الأشخاص المفجوعين بعدة طرق مثل: إعادة عيش التجربة العاطفية، وتأثير الصدمة، ورفض التعبير عن الحزن.
تتحدث بإسهاب عن أهمية ترك الشخص المحزون بمفرده إذا طلب أن يُترك بمفرده وأهمية عدم الإلحاح عليه سواء بالخروج أو تجاوز الفقد، وذلك لأن عيش هذه اللحظات وإتاحة وقت لفهم واستيعاب ما حدث معه أمر مهم يتطلب مدة زمنية تختلف من شخص لآخر. تركّز على أهمية رعاية المحزون، حتى لو رفض الأكل والشرب، بعدة طرق مثل: وضع بعض الطعام الخفيف والساخن أمامه وتحضيره له لأنه في الأخير سيستسلم ويتناول بعض اللقيمات. تتحدث عن صديقتها وعن حكمتها الغريزية لأنّها كانت تُحضر لها في الأسابيع الأولى حساء الرز والبصل والزنجبيل من الحي الصيني .. تقول أنه الشيء الوحيد الذي كانت قادرة على ابتلاعه.
تستعيد ذكرياتها مع زوجها طوال أجزاء الكتاب، إذ أنهم كانوا متزوجين ما يقارب الأربعين عام. علاقتهم وتفاهمهم وانسجامهم مع بعضهم ملفت جداً، حتى في استذكارها لبعض جمله في المواقف التي حدثت معها أثناء بقاءها مع ابنتها في فترة علاجها، لو كان جون هنا سيقول كذا وكذا. تقول جوان أنها ولدت تحمل على كاهلها عقدة خوف لا براء منها، وأخذت وقت طويل لتدرك أن بعض الأحداث في الحياة ستبقى خارج حدود قدرتها على السيطرة والتحكم، وبعض الأحداث ستقع شئت أم أبيت. تحاول دائماً أن تفهم وتسأل كثيراً حتى في اللحظات التي كانت تزعج أطباء ابنتها لتفهم عن حالتها أكثر، أو في اتخاذها لقرار صحي خطير لابنتها كانت تستعيد جملة يكررها جون دائماً: ” لماذا تريدين أن تكوني دائماً على حق؟ لماذا تريدين أن تكون الكلمة الأخيرة لكِ؟ حاولي ولو لمرة واحدة في حياتك، أن تتركي الأمور على حالها” ورغبتها أن يعود ولو لمرة واحدة ليقول لها هذه الجملة. كانت المعرفة تمنحها القدرة على التحكم، وهذا شيء اشترك به معها، أحاول أن اعرف لأفهم أكثر لأغلق الطريق على الجهل.. لكن مهما عرفت وعلمت؛ ستبقى هنالك أمور تجهلها ولن تحيط بكل شيء علماً.
قبل وفاته بستة عشر عاما أجرى عملية في قلبه في الشريان الغشائي النازل LAD أو كما يسميه الأطباء صانع الأرامل .. ولأن عائلته تملك تاريخا بالأمراض القلبية قال: الآن أعرف كيف سأموت! وبه مات .. لا أعلم كيف أصف ما حدث إلا بتذكر أن القدر موكل بالنطق، وأهمية الانتباه لما تنطق به ألسنتنا ونوايانا.

آخر هدية أهداها لها جون كانت في عيد ميلادها قبل خمسة وعشرين يوم من وفاته، أهداها كتاب هي ألّفته ” كتاب الصلاة المشتركة” قرأ لها مقطعاً من الكتاب يعتمد فيه القارئ على استنباط الحدث وقال: “اللعنة! إياكِ أن تخبريني أنكِ عاجزة عن الكتابة مرةً أخرى.. هذه هديتي لكِ في عيد ميلادكِ”. هذا الانسجام والفهم والحب بعلاقتهم رائع جداً، يلفت انتباهي في كل فقرة تستعيد بها موقف ما من بداية زواجهم إلى لحظاته الأخيرة. إذا عاش الإنسان علاقة وحياة بهذا الزخم والألفة والودّ، لماذا يُقلل من شأن الحزن والانكسار على هذا الفقد! لماذا يُطلب منه النهوض فوراً والبقاء بحالة ثبات كأن شيئاً لم يحدث؟! نعم التعايش مع الفقد ممكن مع مرور الوقت، إذا عاش الانسان مشاعر الحزن والألم كاملة؛ إلى ألا يبقى للحزن مكان وكل ما يتبقى هي الذكريات الرائعة. لكن تجاوزه وكبته والمضيّ بحجّة التماسك كأنّ هذه الأيام لم تُعش؛ جحود لا أفهمه.
الكتاب يخبرك أنه توجد أيام سيئة وأيام جيدة بهذه الحياة، وأنّك ستعيشها لأنها جزء من دورة الحياة البشرية ولا يوجد استثناء في هذا. تقييمي للكتاب بخمس نجمات كاملة، وبإمكاني أن اقتبس الكثير من الجمل والاستنتاجات التي وصلت إليها جوان في رحلتها بتعاملها مع الفقدان، لكن لا أودّ أن أسرق منكم تجربة القراءة لها. ستقول وأنت تقرأ نعم شعرت بهذا وأحسست بكذا، لأنك لست الإنسان الوحيد الذي فقد عزيزاً في هذه الحياة. جوان تمسك مصباحاً بكلماتها تضيء به عتمة كل ما هو مجهول وغير مفهوم لنفسك.. شكراً لكِ لأنكِ لم تتركي هذه الأمر على حاله، وبالطبع لن يكون هذا آخر لقاء لي معك.