
لو سألتني قبل خمسة أعوام هل كنت سأعيش إلى عام 2021؟ أو هل سأعيشه كما عشته؟ سأقول لك: إنّه بعيد جداً.. كيف سأعلم ربما أعيشه، لا. ولطالما كان سؤال ما خطتك خلال فترة زمنية محددة خمسة، عشرة، عشرون عام؛ سؤال غريب لا أفهمه.. وكل إجابة سابقة تفوهت بها كردّ عن هذا السؤال كانت كذبة صغيرة. حين أعود لخمس سنوات ماضية، أرى وأفهم أن الحياة عبارة عن حلقات لا نهائية متداخلة ببعضها، تتأرجح بداخلها وتنزلق منها إلى حلقة أخرى، ما يمنعك من العودة لها سوى صمّامٌ خفيّ.
لا أحب أن أخطط خططاً طويلة ولا أحب مشاركة غيري بخططي الشخصية، وكلنا شهدنا انهيار بعض خططنا ونشأة بعضها من العدم العام الماضي. أملك الكثير من الأهداف والأمنيات والأحلام، وفي كل عام اختار التركيز على اثنان أو ثلاثة، من الممكن تنفيذها بمدة قصيرة أو يمكن تقسيمها لإنجازها، وأدع الحياة تتكفل بتحقيق المتبقي.
سأوثق هذا العام بطريقة مختلفة وغريبة تبعاً للأمور التي أطلت التأمل بها.. ولأن لي تقويمي الخاص والعام ينتهي بالنسبة لي قبل يوم ميلادي بيوم وُلِد العنقاء من رماده والذي يصدف أنّه ينصّف العام.. فضّلت أن يكون عنوان نهاية العام الميلادي امتداداً له لأن طائر العنقاء.. حلّق.
سماء..

“ترمشين ليلًا فيكون وجهكِ أول سماء تجمع قمرين في ليلة واحدة”.
لا أعلم لمن هذه الجملة.
بدأت العام بمشاهدة وثائقي الرقصة الأخيرة The last dance الذي يستعرض فيه رحلة مايكل جوردن مع كرة السلة. تابعت الحلقات بحماس شديد ليس لأنه كان مميزاً بمحتواه ونجح في شحذ همّتي.. بل لأنّه مكنّي من رؤية ثلاثة أشخاص قريبة منهم شخصياً يسيرون بحياتهم مثله. لهم نفس النظرة التي تجعلك تظن حين تراهم أنهم في حالة سكون بينما إذا أمعنت سترى بريق التحدي يلمع في أعينهم.. ينتظرون اللحظة المناسبة للقفز. أن تعرف شخصاً واحداً روحه تشبه مايكل هو أمر نادر فكيف إذا كنت محظوظ بمعرفتك لثلاثة منهم! أتطلع للأعوام القادمة لأرى كيف ستكون رقصتهم.
كتبت كما لم أكتب من قبل.. شيءٌ في عقلي يدفعني للاستمرار بالكتابة كلّما رغبت بالتوقف! أضع القلم متقاطعاً على الدفتر لأني انتهيت، فأعود وأحمله وأكتب أكثر.. لا زال الإلحاح موجوداً رغماً عن قلة الكلمات، سأصبر.. سأجدها.. سأصِل.
بنهاية أول أسبوع من أبريل .. تنفست الصعداء الوقت مناسب الآن لإجازة قصيرة؛ خطتها الوحيدة الاستلقاء والتحديق بالفراغ إلى أن أستجمع قواي ثم سأتفرغ لتنفيذ بعض الخطط المؤجلة.. وبالطبع لم أنفذ منها أي شيء ولا بأس بهذا، خاصة إذا كنت قد رفعت من توقعاتي ونسيت أن حدود التحمّل يجب أن تُختبر أولاً قبل أن تقفز منها لا سيما إذا كان الهدف هو الاتساع والانتقال من منطقة راحة إلى منطقة راحة أكبر. فاكتفيت برفع بصري للسماء ليلاً ونهاراً وفي كل مرة؛ أجد ما أبحث عنه.. هذه خطة رائعة حققتها ولم أخطط لها! تبدأ بلحظة ملل ثم تتبدد بالأسئلة هل الغيمة الكثيفة ملمسها كالغيمة الخفيفة؟ .. هل هي فعلاً قطنية كحلوى غزل البنات أم ستعبر يديّ منها كالبخار؟! أصابُ بالدوار فأعلم أن السماء ضاقت ذرعاً بتحديقي بها.. فأتوقف عن النظر.
نار ..
” أنا شمعة لا لا لا .. لا أُبالي
أنا شمعة لا لا لا .. لا أُبالي
فكوني نارا .. فكوني نارا
والهبي فيَّ بليلي
واحرقي مني نهارا واحرقي مني نهارا”.
أغنية أرحميني: عبد الهادي بلخياط.
اختار الصور التي استخدمها وتعبّر عني بحرص شديد.. بشرط واحد وهو أن يكون جزء جميل مني فيها، أضع هذه الصورة في البرامج التي أتواصل بها بشكل رسمي مع الآخرين، أكملت هذه الصورة عامان وبضعة أشهر ولم أغيّرها.. أثارت الفضول لدى الكثير وسأشارك سبب اختيارها.

اشتريت هذه الشمعة في نهاية عام 2018 واحتفظت بها على أن استخدمها لأول مرة بعد أن انتهي من إحدى المهام الشاقة، في طقس وداعي أحرق فيه كل التعب والقلق والقهر والحزن الذي نال مني ودمّر روحي حينها، وهكذا فعلت. أشعلتها بنيّة أن أضيء من هذا اليوم لنفسي فقط، دون أن أحترق وأفنى لأجل الآخرين.. من أراد أن يستمد من ضوئي قبساً فمرحباً به حولي لكن، لن أغيّر مكاني لتتناسب إضاءتي مكانك، ولن أكون الشمعة التي تُطفئ حين تنتهي حاجتك منها لمجرد أن الشمس شرقت وحلّ النهار. حين اقتربت الشمعة من الذوبان بشكل تام وأصبح حرفي مشتعلاً باللون الذهبي التقطت الصورة لكي أذكّر نفسي: هذا هو الوهج الذي سيُشع من حولي، هذا هو النور الذي سيضيئني، ستبقى روحي مشتعلة طوال الوقت كقنديل ديفداس.. ولن يطفئ هذه النّار إلا حلول أجلي. أدّت مهمتها على أكمل وجه ولا احتاج إليها لتذكرني بعد اليوم أني على قيد الحياة فأنا لست شمعة لا أبالي.. بل شعلة لا أبالي.
قمر ..

” على القمر، الشقق التي ستكون أغلى، هي تلك المطِلّة على الأرض”.
غوريو.
أكثر ما يميّز القمر قدرته السريعة على التغيّر.. يستغرق أربعة عشرة يوم لينمو، يكتمل ليوم واحد فقط يبهر الأرض بهالته وضوءه ثمّ يستغرق أربعة عشرة يوم ليتناقص ويولد من جديد. إذا لم يعلّمك القمر معنى التجاوز والمضيّ فما الظاهرة الطبيعية التي ستنجح في تعليمك!؟ ربما ينجح تعاقب الليل والنهار مع البعض، لكن معي نجح القمر. أن تعمل وتجتهد وتحاول لتبني أمر ما حتى تراه أمام عينيك كما تخيلته.. ثم تنتقل منه إلى بناءٍ آخر فتتناقص أهميته لك، لأنه لم يعد لديك مساحة شاغرة له فيخفت ضوءه ويقل إلى أن يختفي تماماً.
قمر الأرض ينخسف مرتين في كل عام. تعلمت في هذا العام أن أسمح لقمري بالنمو والتناقص وألّا أقاوم طبيعته؛ ولا بأس في أن ينخسِف ويُحجبْ ضوءه لبعضِ الوقت، فالوهج الثابت لا وجود له. عمِلت وفق “إذا هبّت رياحك فاغتنمها” وهذا مبدأ رائع يساعدك في فهم نفسك بالتالي استمرار عجلة الإنجاز، طالما أنني بدأت لماذا أتوقف الآن؟ سأستمر طالما لا زلت قادرة على العطاء ولا أشعر بالتعب أو الإرهاق! ستأتي هذه الأيام الباردة، الجافة، عديمة اللون والرائحة.. لا تستعجل قدومها كن أذكى منها ولا تعطيها ما تحب. تحب ذبولك، وانكسارك، وسقوطك.. فلا تترك لها أي شيء يمكنها التغذّي عليه بالتالي لن تجد شيئاً أمامها تحطّمه ولن تنال منك. أيامي المضيئة كانت مضيئة كالقمر.. وأيامي المظلمة كانت مظلمة كالليل.. كالطبيعةِ تماماً.
مطر ..
“لماذا المطر لوحده كل مرة .. كأنه لأول مرة”.
ماجد الثبيتي
أفكر في كل مرة يهطل بها المطر بهذا السؤال: لماذا الإنسان يرتوي بالمطر بالوقت الذي يشكّل فيه الماء أكثر من 70% من وزنه؟ ربما لأن ترابه عُجِنَ للمرة الأولى بماء المطر! في كل مرة يلتقيان .. تُنقّى روح الإنسان من شوائب الحياة.. تماماً كأول مرة.
“لا أحد يعلم بماذا تفكرين إذا لم تتحدثي عمّا يدور في عقلك!” هذه الجملة التي جعلتني اتخذ قرار مهم قبل مدة طويلة جداً بعد أن تكبدت خسائر كثيرة “لن اعتمد على فهم الآخرين لي، سأقول كل ما أريده بكل وضوح”. لم تكن رحلة سهلة ولا زلت أخوضها تميّزها الخفّة والصفاء الذي يتلو تبدد كل السحب الرماديّة، بالأخير يجب عليك أن تكون واضحاً مع نفسك حتى يصبح العالم من حولك واضحاً معك. أؤمن بهذا التزامن، ولا يتوجب هذا أن تكون كتاباً مفتوحاً أبداً؛ يكفي أن يكون فهرسك لنفسك مفهوم وواضح لك لتصبح حياتك أكثر سكينة وطمأنينة. أرسلت لي إحدى صديقاتي منذ مدة صورة لرسالة كتبتها لها في المرحلة الإبتدائية أو المتوسطة لا أذكر أي مرحلة دراسية بالتحديد .. فقلت لها: كنا نعبّر عن مشاعرنا كما هي دون خجل أو تردد.. ما الذي حدث لنا؟ فقالت: “يمكن كبرنا .. يمكن الحياة.. مدري”.
حسناً.. لا أريد أن أكبر هذا الكبر، ولا أريد أن أعيش حياة جامدة مبنيّة على الإخفاء والتورية! رسالتها كانت اللحظة التي بدأت من بعدها بملاحظة طريقتي في التعبير عن مشاعري.. لحسن الحظ لا توجد لديّ مشكلة بالإحساس، بل أعاني من رهافته وأحاول موازنته، فمراقبة طريقة التعبير كانت مهمة سهلة نوعاّ لم تتطلب منّي إلّا الكثير من الانتباه. كقطرات المطر تماماً.. صغيرة ولا ترى، قوّتها المتواصلة قادرة على هدم أصلب صخر. لن أعيش في مكان جاف أو قاسي أو جامد، سأكون كالمطر الذي يحيي بهطوله كل أرض.. هذا ما أنا متأكدة منه اليوم.
فنّ ..

” ليست له عين، لكنه يراني، ليست له يد، لكنه يصافحني، وليست له روح، لكنه يشعر بي، ذلك هو الفن”.
من كتاب (عبور لا ينمحي أثره) لرشاد حسن.
لا أذكر أنّي عشت يوم واحد في حياتي دون أن يحيط بي الفنّ.. القصص، الحكايات، الأغاني، الموسيقى، اللغات، الأفلام وغيرها تشكّل جزء كبير منّي. لم يوجهني أو يجبرني أحد.. كنت أجد متعتي وعالمي الخاص بها منذ طفولتي، معها فهمت نفسي واتصلت بها، عرفت ما أحب وما أكره. في كل فترة زمنية أجد نفسي منغمسة بأحدها دون تخطيط مسبق! ومرة أخرى.. الأشياء التي تحتاجها تظهر دائما في التوقيت المناسب لها. فتقدّرها أكثر وتفهم قيمتها، تؤدي رسالة لا يعلم عنها حتى صانع هذا الفن.. لا يعلم أنّه صنع نجمة؛ ساعدتك في استدلال طريقك.
أحسنت صحبتي في هذا العام، زادت أيامي الجيدة بهجة وفرح وسرور، وخففت من قسوة وصعوبة أيامي السيئة.. سأبقى ممتنّة للفن دوماً؛ كما قال صديقي الذي لا يعلم إلى أيّ حدّ هو صديقي دوستويفسكي: “الجمال سينقذ العالم”. كم هو غريب أنّ نصف اسمه الأخير (دوست) يعني (صديق) في اللغة الهندية والتركية!
أقضي الساعات الأخيرة من آخر يومٍ في العام في وضع خطة أهداف العام الجديد، سأجرّب وضع خطة عامة دون أن أقيّدها بأي شرط. خطة لا حدود لها.. شاسعة كالسماء، حيّة كالنار، مرنة كالقمر، كريمة كالمطر وصحبتها مسلّية كالفنّ.
إذا وصلتم لآخر التدوينة فأودّ أن أشكركم على تواجدكم الدائم وقراءتكم المستمرة لجديد صفحتي.. تمنياتي لكم بعام سعيد مليء بكل الخير والصحة والسلام والحب والفرح.
!! Happy New Year