الضياع وانحلال الهوامـش
أذهلتني، أدهشتني، أفقدتني قدرتي على التعبير والاستيعاب لمدة طويلة، ما هذا؟ تسمّرت أمام الجدار حين أنهيت آخر كلمة من هذه الرواية. أغلقت الكتاب وأغلقت على جزء من كياني معه.. حتماً سأعود لأحدّق به بنظرات تلك المذهلة كأنه أمر لا يخصني أبداً. عن رواية صديقتي المذهلة أو ما تعرف برباعية نابولي أتحدث.
هذه الرواية بأجزائها الأربعة رافقتني في صيف عام 2019م وحاولت الكتابة عنها ثلاث مرات متباعدة ولا زلت أشعر أنني عاجزة أمامها لذلك لن أوصي بقراءتها لأنها ستظهر في طريقك بشكل ما حين يتحتم عليك ذلك.

هي قصة كتبت لأجل الصداقة ولتخليدها بين بطلتي الرواية إيلينا چريكو “لينو” ورافيلا شيرولو “ليلا”. تبدأ الرواية باتصال يأتي إلى لينو من رينو ابن ليلا يخبرها باختفاء أمه المفاجئ لتقول له: أبحث عن أشياءها بالمنزل هل لا زالت موجودة؟ ليجيب: لقد اختفى كل شيء يخصها.
أغلقت الهاتف غاضبةً منها، علمت أن صديقتها اختفت ومحت نفسها للأبد من حياة الجميع لكنها تعيش في ذاكرتها جيداً لذلك ستخلف وعدها لها وستكتب قصتها وكل ما قالته وأخبرتها عنه طوال السنين.. لنرى من سيكسب الآن يا ليلا؟

تعيش كل من الصديقتين في أحد أحياء نابولي الفقيرة في خمسينات القرن العشرين، حيث تتواجد الفوضى في كل جانب منه. يتواجد المرابي دون أخيل كيراتشي وعائلة سولارا ذات التاريخ الإجرامي المظلم وسيطرتهم على سكان الحي وبث الرعب والخوف في أنفسهم بالضرب والقتل من رجال هذه العائلة ومن الدفتر الأحمر الذي تحمله السيدة سولارا دائماً.
الاستبداد والعنف والقسوة هي طابع هذا المكان، القوي يتبجح ويستقوي على الضعيف والغني على الفقير والرجال على النساء. تظهر مشاعر جميع الشخصيات بشكل عاري وقبيح خالية من التجمل والتورية. تسأل نفسك هل الحقائق سيئة وشنيعة لهذه الدرجة؟ أم أن أرواحهم تأثرت بالمكان وفقدت كل جمالها وبهائها ولم يتبقى فيها إلّا العفن والبشاعة!
تتميز كل من الشخصيتين بتناقضها واختلافها عن الأخرى في الطباع والتصرفات وبمحبتهما وعداوتهما لبعضهما وهذا التناقض لم يمنعهما من إيجاد نقطة مشتركة لتستند عليها صداقتهما.

لينو.. الطفلة الرقيقة، الهادئة، الخجولة، الحساسة، شديدة الملاحظة لكل ما يحدث من حولها. الطفلة التي تستمد ثقتها بنفسها من آراء الآخرين عنها وإشادتهم على تهذيبها وحسن سلوكها وتعليمها.
وعلى العكس منها رافيلا، ليلا .. شرسة، عدوانية، عنيدة، حادة الذكاء، صعبة المراس، مشاغبة، لا تبالي بالآخرين، قوية، شجاعة تقدم على المغامرات دون تردد. ليلا التي رغم كل السوء الذي تحمله بداخلها لم يمنع لينو من أن تنظر لها كمثل أعلى، بل عاشت حياتها كظلٍ لها.
ليلا ولينو هذه الصداقة التي نشأت من دون أي حديث بينهما وهما في السادسة من العمر، تلعبان بالدمى تينا ونو حيث لم يستمر اللعب طويلا لتقوم ليلا بإلقاء دمية لينو في قبو الدون أخيل المظلم لتقوم لينو بدورها وتلحق دمية ليلا بدميتها.
هذه العلاقة التي كان وقودها الغيرة والتنافس الدراسي والأحلام المشتركة بالهرب من الحي اهتزت حين أخرج والد ليلا ابنته من المدرسة بعد الصف الخامس لحاجته للمساعدة في عمله كإسكافي.
استمر اجتهاد وتفوق لينو بالمدرسة خوفاً من أن يلحقها مصير كل جاهلٍ بالحي. ومن أجل رغبتها بالتفوق على صديقتها الأذكى منها. ليلا كانت تشجعها على الدراسة وتوفر لها كل السبل لتنجح وكانت تغضب منها حين تهمل دروسها. نجاح لينو لم يشعرها بالرضا عن نفسها أبداً، لطالما وجدت ليلا أفضل وأجمل وأذكى منها. ليلا التي ينجذب إليها الجميع وينفر منها في الوقت نفسه. ليلا التي قرأت نصف كتب المكتبة وتعلمت اللاتينية والإغريقية بمفردها. وصممت موديلات متميزة من الأحذية أخذتها وعائلتها من الفقر إلى الغنى بجانب آل كيراتشي وآل سولارا.

انحلت الهوامش أمامي ..
بهذه الجملة عبرت ليلا عن الانفصال والجمود الذي شعرت به في احتفال ليلة رأس السنة في مذكراتها التي أعطتها لينو لتخفيها عن أيدي زوجها وعن الجميع وبالتحديد لينو.
انحلت الهوامش.. حواف الأشياء بدأت بالذوبان وفقدت ماهيّتها. لم أستطع أن أتعرف على الأمور من حولي، أنظر إلى شقيقي رينو ولا أرى فيه إلّا الجشع والحقد والكراهية .. لقد أصبح يشبه أبناء سولارا وكيراتشي. لم أخشى من الأعيرة النارية في ليلة الاحتفال أبداّ. بدت ألوان الألعاب النارية في عينيّ هي المخيفة والمرعبة، من بين الألوان الحمراء والزرقاء كنت أنتظر أن يصيبني أحدها بأذى، كأن يكون مختبئاً بها رصاصاً متطايراً .. لقد أصبت بالذعر.

هذا البعد الذي نشأ بينهما في هذه المرحلة ووضع كل واحدة منهما في عالم، زاده ظهور نينو ساراتوري صديق طفولتهما في حياتهما مجدداً.
ساراتوري .. يوجد هذا الاسم اللعين خلف حياة المجنونة ميلينا، في أحلام طفولة لينو الساذجة، في مراهقة ليلا المجنونة وشعورها بالحياة والموت في آن واحد. في غمرة تألق لينو واستقرارها ترتكب هذه الحماقة التي اسمها نينو ساراتوري . يظهر هذا الاسم ليمتص طاقة الحياة منك وأنت في أوجك، ليتركك خامداً تنفث رمادك بوجه كل من يقترب منك.
إذا تابعت هذه القصة من خلال مسلسل صديقتي المذهلة الذي أنتجت HBO موسمين منه تناولت فيه الكتابين الأول والثاني من الرباعية فتوقف عن القراءة هنا من فضلك لأنني سأتحدث عن الكثير وسأحرق الكثير.

يستحيل أن تقرأ هذه الرواية دون أن يصيبك التناقض مثلهما، ستصاحبهما من السادسة حتى السادسة والستين، ستكرههما وتحبهما في اللحظة ذاتها ستصرخ في فصلٍ: لماذا يا ليلا؟ وفي الذي يليه: لماذا يا لينو؟ وهكذا حتى تصل لأخر سطر وتقرر بنفسك من تحب ومن تكره.
ستلاحظ حقيقة مهمة دارت حولها حياة الصديقتين .. حين تسعد ليلا تحزن لينو وحين تسعد لينو تحزن ليلا. من هي الطيبة؟ ومن هي الشريرة؟ أم أن كل منهما طيب وشرير بطريقته. على الرغم من ابتعاد مسار حياتهما عن بعض لسنوات طويلة إلّا أنهما نجحتا في إبقاء هذه الصداقة رغم كل ما حدث بينهما.

كرهت استسلام لينو إلى غيرتها وحديثها السلبي مع نفسها وأفكارها التي كونتها عن الآخرين واستغلالها لمن حولها بشكل ناعم وبريء، رغبتها بالهرب والانفصال عن هذا الحي وخجلها المستمر من أسرتها. أحببت إصرارها على الاستقلال وبناء مستقبلها الروائي الذي ساندتها به ليلا وأخبرتها أن تكتب عن الجميع عداها. حذّرتها أن تكتب عنها وأنّها ستمحي كل ما تكتب في كمبيوترها وبسخرية ردت لينو أنها تعرف كيف تحمي نفسها وبلؤم أجابتها ليلا: ليس منّي.
أحببت ليلا الصدامية مع الجميع في الأفكار، تعيش حقيقة واقعها دون أي تزييف أو هرب، تحتاج لهذه القوة وهذا النفس الطويل لتصل لكل ما ترغب به في حياتك. لطالما ساعدت وواجهت ليلا مشاكلها ومشاكل أسرتها وأصدقائها وزوجها وأبناءها بشجاعة تخيف من حولها وكم أكرهها في لحظات الفراغ والضياع والسواد حين تصبح سليطة اللسان من شدة الألم والقهر. قال عنها زوجها ستيفانو مرة: ليلا تملك قوة كامنة ومظلمة تقتل بها كل أبنائي في أحشاءها. ليلا التي عاشت حياتها وهي تخطط للتلاشي والهرب يوماً ما من الجميع دون أن تترك خلفها أي آثر.

في الكتاب الرابع من السلسلة “حكاية الطفلة الضائعة” تشهد علاقة الصديقتين توتراً وبروداً شديداً. يجري لقاء صحفي مع لينو نتيجة نجاح كتبها والتي كثر الحديث عنها وتناولت فيها العديد من الأمور السياسية التي كانت تحدث في إيطاليا تلك الفترة. وطلب منها أن يلتقط لها صور مع ابنتها الصغرى التي كانت دائماً تلعب مع ابنة ليلا. يرى الصحفي أنّ ابنة ليلا تبدو أذكى من ابنتها فيخبرها أن تتصور معها، فهي تليق أكثر لأن تكون ابنتها.
بعد مدة من نشر اللقاء في السوق انشغل الجميع لأقل من دقيقة في الحديث لتختفي ابنه ليلا فجأة من بينهم، ولم يجدها أحد أبداّ. ونتيجة لهذا انهوست ليلا واهتمت ببنات لينو خوفاً عليهم من تكرار حادثة الاختطاف مجدداً. ولسوء الحظ، لم يخطر على بال لينو الذكية أبداً أن ابنة صديقتها اختطفت لأنها فقط بدت أكثر ذكاءاً وظهرت في الصحيفة بجانبها كابنتها!
نشرت لينو روايتها الأخيرة عن صديقتها ونالت نجاحاً أكثر من أي كتاب سابق لها. ولا زالت تسأل رينو عن جديد أخبار صديقتها ليجيبها أن الشرطة تتواصل معه ليتعرف على جثث نساء مسنات هاربات ولم تكن أمه منهم.
عادت لينو إلى منزلها وفتحت البريد فخرجت منه تينا ونو الدمى التي ضاعت في قبو الدون أخيل تعرفت عليها فوراً. ونظرت من حولها تبحث عن ليلا بقلق، تنتظرها تظهر أمامها نحيلة محدودبة الظهر تسألها هل أعجبتك الهدية يا لينو؟ فانفجرت بالبكاء: لقد خدعتني وسحبتني معها إلى حيث شاءت إلى بداية طفولتنا لقد روت حكاية خلاصها باستخدامي.
هذه الصداقة التي ابتدأت بين طفلتين تلعبان بالدمى بعد انتهاء المدرسة، وسرقة ليلا للدمى واخفائها لها عن الجميع حتى تبقي على هذه الصداقة للأبد. انتهت بعد أن أعادت الدمى إلى لينو، وكأن العقد بينهما انتهت مدته وعادت كل منهما للحظة ما قبل اللعب وكل هذه الحياة لم تُعش مطلقاً. كانت لينو النجمة اللامعة في حياة ليلا وكانت ليلا الصديقة المذهلة.
هذه الرواية قوية وكثيفة على الرغم من بساطتها، لابدّ أن تشعر أثناء قراءتك لها أنّه هنالك نوع من التوثيق فيها وكأنها سيرة ذاتية. ليس للأشخاص فقط بل لنابولي وللعائلة والحياة الاقتصادية والسياسية والتعليم والحب والصداقة.
سأختم بجملة لينو وهي تتفحص الدمى: “إن الحياة الحقيقية، خلافاً لما يجري في القصص، إذا انقضت لا تشرف على الوضوح بل على الغموض. الآن وقد ظهرت ليلا بكل هذ الجلاء عليّ أن أسلم أمري لفكرة أني لن أراها للأبد”.