بعد قراءتي لكتاب عام التفكير السحري لجوان ديديون، كان أكثر ما لفت انتباهي هو طبيعة العلاقة بينها وبين زوجها جون جريغوري دون والانسجام والتناغم بينهما. كلاهما كاتبان ناجحان، عملا معاً كثيراً على أعمال كتابية متنوعة صحافية ومقالية. كتبا سويا في الصحافة والمقالات، كلاهما روائيان وكتبا الكثير من الروايات والكتب. وكتبا سوياً سيناريو العديد من الأفلام أشهرها فيلم ولادة نجم A Star Is Born عام1976. والذي أعيد إنتاجه في عام 2018 واقتبس من قبل العديد من الصناعات السينمائية كالهندية بعنوان العاشق aashiqui 2 والذي نجح في إصداره الثاني بعام 2013 نجاح كاسر وأغانيه من أجمل وأعذب ما سمعت.
عاشا ما يقارب الأربعين عاماً سوياً، قبل أن يتوفى جون بنوبة قلبية؛ وبسبب تاريخ عائلته بأمراض القلب قال ساخراً بعد أن أجرى عملية في الشريان الغشائي النازل للقلب المعروف باسم صانع الأرامل: “الآن أعرف ما سأموت به!” ومات به فعلا! كتبت عنهم في مراجعتي لكتاب عام التفكير السحري.

لن أتحدث عنهما اليوم، بل عن طبيعة العلاقات الزوجية بين الأشخاص المبدعين، من خلال قراءة لكتاب زواج المبدعين ثراء المتخيل وفقر الواقع، للكاتب والشاعر اللبناني شوقي بزيع، يقع الكتاب في 350 صفحة ومن نشر دار مسكلياني. ناقش فيه بزيع 32 علاقة بين المبدعين من الكتاب والروائيين والرسامين والنحاتين والفلاسفة وكيف تأثر إبداع أطراف العلاقة بالزواج، وكيف يؤثر الزواج على المبدعين.

سأتحدث في البداية عن الكتاب وأهم الأفكار التي ناقشها، وأكثر العلاقات التي كرهت نماذجها ووددت ألا أعرف أي شيء عن زواجهم. وعن الثنائيات التي راقوا لي كما راق لي الرائعان جوان ديديون وجون دون. وسأختم المراجعة برائي الشخصي والخاص جداً عن موضوع الكتاب. وبالمناسبة هذا الكتاب قرأت مقدمته الطويلة وبعض قصص ثنائياته على قناتي في التليقرام. وأشكر بحر وزينب على حضورهم البث المباشر والنقاش المدهش والجميل معهم حول الكتاب. ربما يكون في الأيام القادمة قراءة لكتاب جديد وشيّق على القناة.. فكونوا بالقرب.
الزواج بشكل عام يغيّر حياة كل من المرأة والرجل، وبالغالب المرأة هي من تتأثر حياتها سلبياً لأنها تدخل هذه الحياة محمّلة بالنصائح، مقدمة على الكثير من التغييرات، مستعدة للتضحيات والتنازلات قبل أن تعرف معدن هذا الرجل، وهل يستحق أن تؤثر العائلة والأسرة على مستقبلها وعملها وموهبتها وحياتها بأكملها. بينما الرجال يندر أن تتأثر حياتهم سلبياً بعده، بل الكثير منهم يبتز ويستغل عاطفة الأمومة لديها، فيثقل كاهلها بمهام الأسرة ويعيش هو حياته طولا وعرضا. وقلة هم الشركاء المستقرين نفسياً واللذين نجحوا في تهذيب الأنا لديهم دون أن يطفئوا من نور شريكهم، ويسعون ويعملون على النمو سويا بجانب بعضهما البعض. فكيف إذا تزوج كيانان مبدعان متفرّدان ومنتجان مفكّران ببعضهما! إما أن يصنعا جنّة ينعمان وكل من حولهم بها، وإما يصنعان جهنّم يحرقان بعضهما بنيرانها قبل أي أحد.
يبدأ بزيع الكتاب بمقدمة طويلة وشاملة ورائعة، تصلح لأن تكون ورقة بحثية في علاقات الأزواج المبدعين، يتتبع فيها حيواتهم وأثر ما عاشوه على نتاجهم الإبداعي إيجاباً وسلباً على كلا الطرفين. يعتقد الكثير أن الإبداع والإلهام لا يتجلّى إلا في حالة هدوء وتأمل وصمت، وأن الحرية والحياة العشوائية وعدم الاستقرار المكاني والتباعد الزمني، والعلاقات المتعددة هي أكبر جاذب ومحفز له! وهذا غير صحيح لأن استمرار حالة التدفق الإبداعي تتطلب مسؤولية والتزام تجاه هذه الهبة، والاحتكاك بأحداث الحياة اليومية من حولك والسعي لتوفير الحياة الكريمة تحفز التفكير والتأمل. كلها تساهم بإيجاد مسببات للكتابة أو للرسم أو للشعر أو تأليف الموسيقى أو حتى بالتمثيل والمسرح من خلال تجسيد الشخصيات المتنوعة. هذه العملية الإبداعية تحتاج إلى روتين ونظام، وحرية مقننة لا حرية عشوائية وفوضوية، ومقدرة على معرفة بوادر قدوم اللحظات الإبداعية ليصطاد ما تحمله من كنوز، وهذا لا يحدث مع الفوضى، فحتى الخلّاقة منها مقننة.
بزيع ذكر في الكتاب نماذج لمفكرين وفلاسفة يعتبرون من النخبة في مجالاتهم لكنهم أفشل الفشلة في علاقاتهم الزوجية أو حتى في أراءهم المتطرفة والكارهة تجاه النساء والزواج مثل شوبنهاور وجان جاك روسو وبيكاسو وغيرهم. الذين لا يرون النساء كإنسان مماثل لهم بل كائن من درجة دنيا، وجد حتى يلهمهم أو يسهل عليهم حياتهم أو كمتاع لهم وظيفته الإنجاب فحسب! ذكر نماذج لأزواج عرب وأجانب، مسلمين ويهود ومسيحين ولا دينين، أحاديّ الجنس أو مثليين أو متعددين الجنس، أغنياء أو فقراء، من طبقات برجوازية ومن عامة المجتمع! منهم من ازدهر طرفي العلاقة إبداعاً بعد الزواج لأن المساحة المكانية والفكرية لكلا الطرفين تماهت مع بعضهما، دون محاولات الإقصاء والإخفاء، السيطرة على الآخر وإرغامه على تكريس حياته له نتيجة للغيرة، أو التنافس، أو التملك، أو الإهمال والتملص من مسؤوليات العائلة والأطفال. تشيئ موهبة الطرف الثاني والحطّ منها وعادة ما يكون النساء هم الطرف المغلوب على أمره. أو أن يدفع أحدهما الآخر للانتحار، أو المصحات النفسية، أو المرض أو الخيانة.

رغم أنه صنّف علاقة سارتر وسيمون دي بوفوار بالناجحة! بسبب استمرارها لعقود الإ أني لا أراها كذلك أبداً. فكلاهما لم يكن ملتزماً ومخلصاً تجاه الآخر، بل عاشا علاقة مفتوحة ومتعددة مع النساء والرجال ومع هذا كانت تغار سيمون أحياناً من النساء التي تقترحهن له! (فوق قبح الفعل لها وجه تغار). أو بيكاسو الذي أنجب من حبيبته فرانسواز جيلوت طفلين وعاشا 10 سنوات مع بعضهما، وحين أخبرته لماذا يهملها ولا يهتم بها؟ أخبرها أنه يوجد هناك نوعين من النساء في العالم نوع آلهة ونوع ممسحة! فهجرته في حينها وأصابت أناه وغروره بعطب لم يشف منه إلى أن مات. بل أنه قام بهجر أطفاله منها بعد أن نشرت سيرتها الذاتية والتي أفشت بها طبائعه! بالمناسبة كان أكبر منها ب40 عام وحين تركته كانت في 34 من عمرها. بل تزوجت بعده مرتين وعاشت إلى عمر 102 عام. وأتخيل لو كانت هذه المرأة عديمة للكرامة والكبرياء وبقت معه بعد تلك الكلمة، ودفنت نفسها حيّة، كم كانت لتعيش؟ والدة بيكاسو قالت لزوجته الأولى: ” هذا لا يحب شيء بحياته الا لوحاته!” كان يستمتع بشجارات زوجاته أمامه ويفرح بها لأنهم يتشاجرون لأجله. بيكاسو شايب معتوه ونرجسي بامتياز وعديم للأخلاق والاحترام بشهادة الفنانين الذين عاصروه.

لم تعحبني علاقة الرسامة فريدا كاهلو بزوجها دييغو ريفييرا، فقط لأنه خانها فيما عدا ذلك شعرت بالدفء معهما. فهو لم يخنها مع امرأة غريبة بل مع شقيقتها! وهذا أذى كبير منهما لها، بل أن ردة فعل فريدا كانت أكثر سوءاً حين قامت بخيانته بعدها وكأنها تخبره أنها رغم عجزها وفقدانها للحركة ستجد رجلاً غيره وتخونه! رغم تعاطفي الشديد مع مرضها وإعاقتها، والموقف الصعب الذي عاشته بسبب اقتحام زوجته الأولى لحفل زفافهما ورفعت عن ساقيها وصرخت قائلة: “هل هذه هي الساقين النحيلتين التي اخترتها بدلا عن ساقيّ!” إجهاضها المتكرر، وصعوبة مرضها لا تعطيه الحق بخيانتها فهي لم تتزوجه إلا لأنها وثقت به ورأت به شخص تأتمن على نفسها معه أكثر من والدها.. بعد عامين من الكرّ والفرّ مع هذا الثنائي عادا لبعضهما إلى أن ماتت فريدا.

أحببت العلاقة بين سالفادور دالي وزوجته غالا، وكمّ الوفاء والحب والعشق والوله بينهما رغم أنها كانت تكبره بعشرة أعوام، بل أنه وجد بها محفزاً على الإبداع والعبقرية وكانا أوفياء لبعضهما إلى أن ماتت غالا. كان يصفها بأنها عموده الفقري الذي يعصم حياته من التشظي! بل قال حين ماتت: ” لقد حصل ما كنت أخشاه. لقد متُّ قبلها!”. أحببت كذلك علاقة البريطانية لورنا هيلز والعراقي جواد سليم، رغم قصر المدة التي عاشاها سوياً قبل وفاة جواد. استغربت مدى انسجام لورنا بطباع العرب والتكيف معها وحبها وتوثيقها لها في رسوماتها بعد أن رأت فيها إلهام لم يره من كانوا يعيشون فيها، وتسميتها لبناتها بأسماء عربيّة.
قصة هذا الثنائي بها شيء أصيل وحقيقي وبديع جداً وهي ما ختمت قراءة الكتاب به في قناتي، وبالمناسبة أشكر بحر الذي أهداني رسمتين، رسمها في كلا اللقائين، وأثناء كتابتي لهذه المقالة انتبهت أن الرسمة الثانية كانت نخلة تناسب الثنائي الذي عاش وسط نخيل العراق.



ثنائية إيليني ساميوس وكازنتزاكي رغم كل الصعوبات التي عاشوها واصراره على العيش بعيدين عن بعضهما حتى تستمر علاقتهما واستجابتها لطلبه! إلا أنه تزوجها بعد هدوء الحرب، وأخبرها وطلب منها أن تكتب عنه لأنه لم يعرفه أحد طوال حياته مثلها، بل أنها لم تمحو رسائله لحبيباته قبلها من سيرته الذاتية وكتبتها بحرفيّة عالية.
بعكس دوستيوفيسكي الذي لم يتحدث أبداً عن زوجته الأولى المتوفاة أمام آنا، حتى لا تجد سبباً يضايقها أو لتغار منها! الغربة ساعدتهما على الازدهار رغم وفاة طفلتهما الأولى التي أثّر فقدها عليه، لكنها قللت من تعبه ومرضه. في كل مرة أقرأ عن دوستيوفيسكي أشعر بنفح صفات عربيّة خالصة فيه! تتجلى في صدقه ووضوحه مع آنا بشأن مرضه قبل زواجه منها، والمعاناة التي ستستمر للأبد مع مرض الصرع ونوباته. عملها بجانبه في تحرير رواياته ومقالاته، ورؤيتها لموهبته الفذّة التي لم يكن يعلم بحجمها. فهو يكتب لأجل أن يدفع الفواتير والتزامات أسرته، ويشعر بالصداع كلما اقترب موعد تسليم الفصل لنشره في الجريدة وهو لم ينته منه. وهذا يذكرني بهوسه سواء في رواية الجريمة والعقاب أو المقامر، بالعملات النقدية التي لا تخلو أحداثها من تكرار كلمتي الروبل والكوبيك! فهو رجل يأخذ مسؤولياته والتزاماته على محمل الجد حتى حين يؤّلف.
بالنسبة لرأيي الخاص وبالمختصر الشديد أؤمن بهذا المثل” إذا اشتهى القلب ساقت القدم” في كل أمر بهذه الحياة وليس فقط بالزواج. معظم المبدعين الذي فشلوا بزواجهم هم فشلوا بسبب صفاتهم الشخصية وعللهم المرضية وأناهم العالي ورغبتهم بتكريس الطرف الثاني لحياته ليصبح محور كونه! وإهمالهم وعدم رغبتهم بالالتزام وتحمل المسؤولية. لا يوجد أي سبب يثبت أن الزواج يطرد الإلهام ويبعد ملكة الإبداع ويحدّ من أفقك وإنتاجك في حال اختيارك للزوج المناسب لك، سواء كان مبدع وخلّاق أو لا. بدليل مؤلف الكتاب الذي استبعد فكرة الزواج لعقود كثيرة، ثم تزوج من كاتبة وشاعرة مثله وهي رنيم ضاهر، وأوضح وجه نظره مفصّلة بالكتاب.
لذلك الجيد جيد من البداية والردي ردي من البداية، وليالي العيد تبان من عصاريها. وإن كنت تريد زواج ناجح أعرف ماهيّة نفسك بصدق وماهي الحياة التي تريدها وتريد أن تعيشها؟ وما هي الصفات التي تريدها في شريكك؟ وسيتجلى لك ويظهر بحياتك الشريك المناسب لك بالوقت المناسب لكما. الكتاب من أجمل ما قرأت، بل أني خرجت منه بقائمة قرائية طويلة وأسماء أول مرة أعرفها استمتعت بالتعرف عليها مثل لورنا وجواد، لذلك أوصي بقراءته.



أضف تعليق