أؤمن كثيراً بتزامن الأشياء، وترتيب الحياة لها، ومجيئها دائماً في الوقت المناسب. والتي دائماً ما تأتي في أشدّ أوقاتك احتياجاً لها دون أي تخطيط مسبق! ممّا يمكّنك من معرفتها وفهمها وإدراكها إلى أقصى حد.
هذا ما حدث معي خلال قراءتي لكتاب اختفاء الذات عن نفسها لدافيد لوبرتون، حيث تزامنت هذه القراءة مع مشاهدتي للمسلسل التركي موسوعة إسطنبول والذي يتحدث عن أزمة الهويّة والبحث عن الذات. وما أجمل أن تشاهد ما تقرأ وتقرأ ما تشاهد، دون أن تخطط للأمر، فهذه من هدايا الحياة التي لا تقدّر بثمن!
موسوعة إسطنبول Istanbul Encyclopedia!
هي موسوعة غير مكتملة لمدينة إسطنبول كتبها الكاتب والروائي رشاد أكرم كوجو، ليوثق بها المظاهر التاريخية المعمارية، الأحياء، المباني، الشوارع وأهم الأماكن بالمدينة بحسب الأحرف الأبجدية للغة. لم يُكتب له إكمالها وتوقفت الموسوعة عند حرف الجيم وكان آخر ما وثّقه هو حيّ غلطة Galata.
هذا المسلسل على اسم الموسوعة، في كل حلقة يبدأ بحرف وينتقل منه للمكان أو الحيّ بحسب ما تمرّ به شخصياته من مواقف وتغييرات، ويشارك تاريخ كل منطقة مع سير أحداث المسلسل.
الثيمة الأساسية لجميع شخصياته هي بحثهم المستمر عن أنفسهم وذواتهم وهويّاتهم، وكشف الصراع الذي يعيشونه بدواخلهم. سواء كان من خلال الفقد، الإدمان، القيم، الخرف، الهرب، الدين، الانتقال، تعلّم لغة جديدة، العمل، أزمة منتصف العمر، المراهقة. كل ما يجمع هذه الشخصيات هو الضياع ومحاولة إيجادهم لأنفسهم بطرقهم الخاصة، والتي ربما قد تأذي من حولهم متعمّدين أو دون أن يعلموا.
تشاهد الأحداث بعين شخصيتين رئيسية هما زهرة ونسرين.. زهرة المقبلة على حياة الجامعة في إسطنبول وكل المعتركات الشخصية والنفسية والأزمة الدينية التي تعيشها، للتأقلم بها. ونسرين.. الطبيبة المتفوقة بعملها.. صديقة والدة زهرة والتي انقطعت بهم السبل بعد انتقالها إلى إسطنبول حين كانت زهرة في عامها الأول. ما الذي حدث بين الصديقتين وكيف اجتمعت بزهرة من جديد وكيف التقت الصديقتان بعد كل الدهر الذي مرّ بينهما.
إسطنبول.. المدينة الغامضة رغم سعتها والقديمة رغم حداثتها.. مدينة كوزموبوليتانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى! تلعب دور مهم في هذا المسلسل كما لو أنها هي الأخرى شخصية رئيسية تتحدث عنها أزقّتها وشوارعها وعمارتها وبوسفورها وسماءها وليلها وموسيقاها.
لا أريد أن أكثر الحديث عنه، شاهدوه ممتع للغاية! المسلسل من بطولة الرائعة جانان إردوغار والقادمة بقوة هيلين كانديمير ويعرض على نتفليكس.
اختفاء الذات عن نفسها – دافيد لوبرتون
في البدء هذا كتاب فلسفي من العيار الثقيل! يعرّي النفس البشرية أمامك وكل الحيل النفسية التي تراها من حولك أو قد تقوم بها. حين ترغب في الاختفاء والتلاشي أو عيش حالة من التغييب أو البياض كما يسميها دافيد. سواء كان هذا الاختفاء مادياً أو معنوياً أو شعورياً، وكيف يفكّر الإنسان ويتصرف حين يعيش في حالة عدمية، دون غاية، أو رغبة، أو محفز، أو شغف للحياة.
لجوء إنسان اليوم للفردانية دون سبب وانفكاكه من الحياة المجتمعية أو أي رابط يبقيه على اتصال بالحياة. لأنه يرغب بالتلاشي والانتهاء، فيبدأ بالتخلّي عن كل شيء حوله لربما يجد نفسه أو لينتهي باختفائه! ذكرني هذا بشخصية رافيلا في رواية صديقتي المذهلة، والتي عبرت عن رغبتها بالتلاشي ووصفتها بانحلال وغياب الهوامش سواء كان لحياتها أو لنفسها، ليلا هي مثال جيد للشخصية التي تسعى للاختفاء! هنا مراجعتي لرواية صديقتي المذهلة.
الكتاب يتكوّن من ستة فصول، يقع في 265 صفحة من ترجمة زكية البدور ومراجعة عبد السلام بنعبد العالي ونشر دار صفحة سبعة. سأتحدث عنه بشكل مختصر، لأنه كتاب غني ودسم جداً، أعجبني كثيراً وأحببت تناوله الصادق والواضح للكثير من مشاعر وأفعال وتصرفات البشر دون أي تلطيف أو توريه. يظهر الحقائق تماما كما هي، لذلك قد يؤلمك ما ستقرأه إن كنت تتهرب من مواجهة مشاعرك أو أفعالك أو إن كنت تصادف هذا النوع من الكتب لأول مرة.
ألّا تعود أحداً…
يبدأ الحديث فيه عن الحياة اللاشخصية، حيث يلجأ بعض البشر نتيجة لمواقف مرّوا بها لعيش حالة انفصال تدريجي عن الوسط الذي يعيشون به. سواء انفصال عن العائلة، الأصدقاء، العمل، البيئة، البلد إما لشعوره بالاستبعاد أو لأنه يشعر أنه لا ينتمي للمكان فيهجر هذا العالم ويلغيه من نظامه وإن كان لا زال يعيش فيه! مما يجعل من حوله يبتعدون عنه لأنه هو لا يبذل أي جهد ليبقيهم حوله. فهو متواجد وغير متواجد ودون أن يكون. فهم لا يفعلون هذا لأجل أن يحيوا حياة جديدة، بل رغبة في التلاشي والذوبان والتحلل إلى أن يختفوا من العالم.
يدفع هذا النوع من البشر أنفسهم ليصلوا لحالة يستحيل التعايش معها أو عشرتها، يتوحشون إلى أن يصبحوا لا شيء.. حالة فناء تامّة. بعضهم يصل لهذه الحالة بعد التقاعد، أو البطالة، مرورهم بأزمات حياتية اجتماعية وصحية يتوقفون على أثرها عن القتال والمجادلة والتشبث بالحياة. يذكر في هذا الجزء أمثلة لأشخاص عاشوا هذا التحوّل مثل والد غوينيل أوبري، ووالد بول اوستر والذي كتب عنه في كتابه اختراع العزلة، وروبرت فالزر الذي وصفت شخصيات قصصه بالمجنونة لأنها سطحية ولا إنسانية. وأنه ككاتب يكتب بدون تصحيح ومراجعة، ككتابة يعمد فيها للغياب، ويحلل دافيد قصة الأبناء تانر بشكل تفصيلي وكيف أنه شخصيات فالزر لم يكونوا أفراد، بل يتوقون للاندماج بالأشياء!
يتحدث بعدها عن اللامبالاة، ليست بوصفها وسيلة يلجأ لها الإنسان لتفادي إزعاج الآخرين أو عدم الانتباه المهذب كما أطلق عليه. بل يتحدث عنها بوصفها سلوك بعدم الرغبة في المساهمة في أي إنشاء أو الحفاظ على أي رابط اجتماعي، اللامبالاة المرضية التي تلغي أي إحساس وشعور عاطفي وإنساني تجاه الآخرين، مثل الاستقالة الصامتة والطلاق الصامت. اللامبالاة المصحوبة بالعجز والخوف من المسؤولية والرغبة بالانسحاب من الحياة والعالم. يشرّح الكاتب هنا رواية بارتلبي النسّاخ وكيف أنه المثال النموذج على الإنسان الذي يعيش لامبالي ومنسحب من الحياة دون أي تفاعل كما لو أنّه روبوت يأكل ويشرب ويعمل وينام.
يذكر بعدها مثالين لشخصيتين دفعتها الرغبة بالاختفاء إلى ابتكار وسائل جديدة من الاختفاء. الأول هو الكاتب البرتغالي فيرناندو بيسوا، الذي لجأ لتعدد الشخوص حيث أنه كتب تحت أسماء مختلفة، كل اسم منها له اسم وتاريخ وحياة وأسلوب كتابة مختلف عن الآخر. كما لو أنه كان يعيش حالة من الانفصام، أودت به إلى اختراع شخوص أدبيّة كل منها مبدع أكثر من الآخر إلى حدّ أن نتاجه الأدبي لكل هذه الشخوص يشكل جزء كبير وثقيل في الأدب البرتغالي رغم أنه لم يعش إلا 47 عام!
الشخصية الثانية هي لورنس العرب، الذي كان له دور في الانتصار على الأتراك في الجزيرة العربية. تخلّى عن اسمه بعد أن عمل مع تشرشل، وبهويّة جديدة بدأ العمل كجندي ميكانيكي عادي تاركاً كل مجده وراءه رغبةً في أن يعامل ببساطة مثل أي انسان وساعده في هذا عيشه بهويّة عربية لمدة سنوات، من التنصل من هويته والنظر للغرب بأعين مختلفة جعلته يتوقف عن تصديقهم!
طرق متسترة للاختفاء..
يختفي البشر من خلال سلوكيات متعددة، يلجأ بعضهم للاختفاء بالنوم للتهرب من المسؤولية أو المواجهة، أو هرباً من التقاءه بأعين الآخرين. حيث لا يكون النوم هنا رغبة في الراحة والتخلص من التعب؛ بل رغبة في العودة لرحم الأم كما يرى فرويد، فيبني بالنوم جداراً من عدم الاهتمام والاكتراث. فيحاول أن يختفي وينسى نفسه ويعيش من خلال أحلام النوم وأحلام اليقظة حياته.
من الطرق التي تطرّق لها هي الباشانكو وهي لعبة يابانية كانت موجهة للأطفال بعد الحرب ثم انتشرت وهي مجموعة كرات تُسحب من ألة، لتسقط في مسارات متفرعة ثم تجمع ويعاد اسقاطها دواليك. أشبه بحالة تنويم مغناطيسي، وقد تكون من خلال الانغماس في ألعاب الفيديو، إدمان وسائل التواصل الاجتماعي، المخدرات وغيرها. أو أن يلجأ الشخص للانغماس بالتعب وادعاء الانشغال حتى يتهرب من أي مسؤولية أسرية أو اجتماعية، قد ينهك نفسه بالأنشطة البدنية أو الرياضية الشديدة أو بالعمل طويلاً إلى يعتاد من حوله على غيابه بينما هو يحاول أن يهرب من نفسه إلى أن يصل لحالة من الإنهاك تودي به إلى الانهيار.
الاحتراق الذي ينتج من الإرهاق بعد مدة من التعب الطويل، فمثلاً انعدام القدرة على الانفصال عن العمل بعد نهايته، بسبب وفرة الهواتف الذكيّة. وهذا شيء جديد على البشرية لم يكن متاحاً من قبل، فيصبح الإنسان في حالة يقظة واستعداد كما لو أنه ينتظر الانقضاض على فريسة ما لينجو.
الاكتئاب.. الانسحاب من الحياة والذي قد يكون نتيجة لحداد على فقد شخص ما أو فقدان شيء مهم كان مرتبط به مما يجعله مبتور نفسيّاً. الاكتئاب هو كذلك اختفاء للذات ومن أكثرها انتشاراً في الوقت الحالي لأسباب متنوعة، يصاحبه بطء في الحركة والأفعال والتفكير واتخاذ القرار، تثاقل في النطق ورتابة في الحديث وانخفاض مميت للصوت، فيفقد كل العلامات الحيوية ويجعله يبدو باهتاً.
الكتاب جدير بالقراءة، مليء بالأمثلة التي قد تكون عشتها أو رأيت من يعيشها حولك، يعيبه التكرار في بعض الأفكار لكن أفهم الأمر لأنه يحاول أن يشرّح أحوال وأشكال البشر في الاختفاء في مراحل حياتهم المختلفة.
عائشة على القمر 
أضف تعليق