تنقر الكلمات بإلحاح على رأسي منذ مدة طويلة، ولأول مرة لا أريد أن أكتب. أضع رأسي على الوسادة كل يوم وأنا أتجاهل هذا النقر، لأسباب كثيرة ليس من بينها الإساءة للحرف أو الكلمة. أريد أن أكتب حين يصبح بإمكاني فتح ذراعيّ إلى آخر حدٍّ للكلمات، لأحتضنها بكل اشتياق ولأستقبلها بحرارة، كما لو أني لا أعرف أنها كانت تقف على الباب؛ تنتظر مني فتحه على مصراعيه.
الكلمة.. هي صلتي الثانية بهذه الحياة بعد المشي، وكلاهما تقطع به المسافات والأسطر.. بالخطوات والكلمات. وفي الفترة الأخيرة مشيت دون اكتراث بالصيف أو الحرارة.. بل أتبعت المشي بكثير من أكواب القهوة الساخنة كما لو أني أنظر لهذه الطبيعة متخصّرة وأسألها: هل تريدين أن تتحدي قدرتي على التكيّف؟؟ تفضّلي إذاً.
تحتفظ قريبتي برسالة من ثلاثة أسطر كتبتها لها حين كنت في الثامنة من عمري.. تخبرني أنها من الكنوز التي لن تفرّط بها أبداً. هي التي تخبرني أنها حين تتابع المسلسل التركي الشمال والجنوب، لا ترى في شخصية البطلة جيمري (جمرة) إلا أنا! لأن جيمري صديقة رائعة ووفيّة، كاتبة موهوبة، وعاشقة مجنونة، وحساسة للغاية فهي حين تبكي كل ما فيها يبكي معها بصدق، والأهم أن لديها أم تشبه أمي قوية، محبة للحياة رغماً عن كل شيء، ولا تقبل أن يصيب ابنتها أي خدش!

كنت لمدة طويلة أضحك حين تخبرني كل هذا، في كل مرة يعيد بها أي أحد حولي مشاهدة المسلسل، ويفتح الحديث عنه. أقول لنفسي:” يا ساتر! لهالدرجة هالبنت تعرف كيف تشكلت روحي!” ثم أخبرها : ” لا ما أشبهها. أنا أشبه كوزاي (شمال).. فأنا مثله أنطح الصعوبات منذ نعومة أظافري.. أثور من فترةٍ لأخرى.. ولا يمنعني من توزيع اللكمات إلّا ضعف جسدي.. لكن بشهادة شقيقي أنها حين (توصّل) معي.. وأمسك بيدي اليسرى التي لا أستخدمها بكثرة إلا للنقر على أحرف الكيبورد.. أي شيء حولي لأرميه.. فإني دائماً أصيب الهدف”. رفعت حاجبها لي وقالت: ” إييه طيب .. جيمري والله جيمري!”.

الغضب.. لطالما كان من أحد محركاتي بالحياة، ورغم إني أتعوذ منه مع أشياء كثيرة كل صباح.. إلا أني أعرف تماماً نوع الغضب الذي يجعلني كالجمرة.. مثل العاصفة.. لا أتردد ولا أنظر للخلف، ولا أفكر بأي شيء، وأعلم أنّه إذا وصلت لهذه المرحلة لا شيء حينها يمكنه إيقافي.
لم أفكر وأتأمل بمثل (الطيور على أشكالها تقع) بشكل إيجابي، إلا حين أدركت أن جيمري وكوزاي مصنوعان من نفس الطينة، وإن كانا بشكلٍ ما مختلفان، إلا أنهما بالجوهر نفسٌ واحدة ومرايا لأنفسهم. وذلك حين أخبرتني أمي في بداية الشهر أنها بدأت بإعادة المسلسل! سألتها عن السبب فقالت: “فيه شي مريح ويجلب الأمل بهذا المسلسل!” ولأني احتفظ بحلقاته على أكثر من (هارديسك) خوفاً من أن تحرمني التقنية بشكل ما من مشاهدته متى ما أردت.. أخرجته من مخبأه وأصبح يعمل في خلفيّة تلفازي طوال اليوم.. فانتبهت لأول مرة أنهما نفساً واحدة.

جيمري.. لأسمها معاني كثيرة: فهي جمرة، جمرة من النار.. أو جمرة البرد.. فالأتراك يسمون الفترة التي يشتد بها البرد ويصبح الشتاء زمهريراً في فبراير بالجمرة. وفي تاريخهم تسقط في ذلك الوقت من العام ثلاث جمرات غير مرئية من السماء. الأولى تدفئ الهواء، والثانية تدفئ الماء والثالثة تدفئ التربة. معلنة انتهاء فصل الشتاء والاستعداد للربيع وعودة الحياة!
أما كوزاي: فهو بمعنى الشمال.. الاتجاه الذي تتبعه حين تتوه، النجم الذي تنظر له ويرشدك إليك حين تفقد طريقك.. الشمال هو القوّة والجسارة والوضوح والرشاد.. حتى إذا فقد نفسه واحترق بالجمرة! وكأن شباط اللباط.. العاصف وغير المتوقع، لا ينتظره سوى سقوط الجمر فيه ليزيد عنفوانه جنوناً واحتراقاً لا تشعر به بلسعاته.. كاللهيب الأزرق.


عاد أنوراج باسو بعد ثمانية عشر عاماً من فيلمه الحياة في المترو (Life in a… Metro) 2007، بفيلم جديد هذا العام المترو في عصرنا Metro in dino. الجمال والخفّة والإبداع المستمر في الحكايات والحياة والموسيقى التي تجعلك فوق الغيوم.. هذه هي البهجة والدهشة التي تجعل السينما الهندية صانعة الفرح والمرح الأولى ليس لي فحسب، بل للعالم الأجمع!
لا زلت تحت تأثير الفيلم الذي صدر بالأمس على نتفليكس.. منتشيه بموسيقاه التي منعت نفسي من الاستماع اليها بصعوبة لأشهر حتى أحافظ على شعور الدهشة كاملاً من أول ثانية إلى أخر ثانية منه! وسأفرد للفيلمين مراجعة قريباً لأني في حالة ترنح لا تسمح حالياً إلا بالانبهار!
أمّا فضل فهو لم يصحٍّ الشوق من نومه فحسب.. بل فتح بصوته الباب لكل الكلمات التي كانت تحترق كالجمرة من الانتظار على عتبتي! إلى حدّ أني حين وصلت لكتابة هذا السطر شعرت أن هذه الجمرة ازدادت اشتعال.. ولم تشبع من رؤيتي بعد.



أضف تعليق