بيوت من ورق – دومينيك فورتييه 🏘️🌺🍀

إيميلي ديكنسون

استفتاح لفاصل الكتاب الجديد المهدى من صديقتي بقراءة هذه الرواية .. الفاصل عبارة عن نقوش من الفن الصخري بالعلا

بيوت من ورق، رواية للكاتبة الكندية دومينيك فورتييه صدرت باللغة الفرنسية عام 2020 وترجمتها نهى مصطفى للعربية، من نشر دار العربي للنشر والتوزيع في عام 2024 وتقع في 160 صفحة، فازت الرواية بجائزة رينودو الأدبية.

في هذا العمل تتبع دومينيك حكاية الشاعرة الأمريكية ايميلي ديكنسون 1830-1886 بطريقة كتابة غريبة من نوعها فهي رواية وسيرة ذاتية في الوقت ذاته، يختلط بها الخيال والحقيقة وتحتاج لمجهود ذهني كبير أثناء قراءتها بسبب التناوب بين الخطوط الزمنية.

هذه الرواية هي أول رواية أشارك قراءتها بصوت عالٍ على قناتي في التليقرام خلال شهر يوليو الماضي. في العادة أناقش الكتب التي تعجبني وأتحاور مع الأصدقاء في أفكارها من وقتٍ لآخر في بثوث مباشرة على القناة. وأود أن أشكر على وجه الخصوص بحر الذي أثرى اللقاءات السابقة بمزيد من الدهشة.. يفوتكم الكثير من الإبداع والتألق والعفوية هناك.

تتنقل الكاتبة طوال الرواية بين خطين زمنين دون أي فاصل بينهما، ما بين القرن التاسع عشر أي الفترة التي كانت تعيش بها إيميلي وبين حياة دومينيك في القرن الواحد والعشرين. وهذا هو أكثر ما كرهته في الرواية! لأنها تتنقل دون تنبيه أو إشارة سواء بتغير الفصل أو الشخصيات، تنتقل من بلدة أمهرست مع إيميلي إلى دومينيك في نيويورك أو مونتريال دون أي توضيح! هذا الأمر هو ما أفسد عليّ قراءة هذه الرواية العذبة والحيّة والمدهشة للغاية.

أعتقد أن كل امرأة مهتمة بالكتابة بشكل عام، وبكتابة الأدب والشعر على وجه الخصوص يجب عليها أن تقرأ هذه الرواية. عاشت إيميلي وهي محاطة بالطبيعة منذ نعومة أظافرها، تراقب النباتات والطيور والعصافير والحشرات. تجمع الزهور والأعشاب، تجففها في معشبة في فصل الربيع بين صفحات أضخم الكتب لتحتفظ بها في مجموعتها الخاصة. وجزء تجففه بالمطبخ لتشرب مع عائلتها شاي الزهور المجففة بالشتاء.

اهتمت بالسماء والنجوم وتغير فصول السنة، إلى حد فرحها الشديد بتلسكوب أهداها إياه والدها في عيد الميلاد. تتجلى دومينيك في وصف حياة إيميلي المدهشة والمنعشة، سواء باختيارها للمقتطفات من نصوصها وتوظيفها بأحداث الرواية والتي بالمناسبة ليست بالمعقدة؛ بل كما لو أنك تستمع لشخص يحكي عن حياته من طفولته في آخر أيّامه.

الفرق هو أن الكاتبة دومينيك تُقحم نفسها وحياتها لتتقاطع مع حياة إيميلي. وهذه طريقة رائعة في كتابة الحبكة لكن، لم تُعرض بشكل يسهل على القارئ التركيز في القراءة، واعترفت هي بهذا الأمر في خاتمة الكتاب وأنها كانت متعمدة لهذا الفعل! أظن أنه يجب عليكِ أن تكوني أكثر شجاعة في طرح ما تفكرين به، دون الاختباء خلف اسم ايميلي! رغم أنها حرصت على إبراز مشاركتها لحب المكتبات والكتب القديمة، واللوحات، والطبيعة، والشعر!

تُظهر الرواية العزلة والحياة المحدودة التي كانت تملكها النساء في تلك الفترة، وكيف أن أدوارهم كانت محصورة في الزواج والأمومة والتربية وتدبير المنزل والتعليم محصور فقط على ما تقدّمه الكنيسة من علم. إيميلي أظهرت تمردها الخاص على هذه الحياة بطريقتها، تنتقد صديقاتها حين ينسون هوياتهم واهتماماتهم بعد زواجهم! تلاحظ انطفاء الضوء وخفوت بريق الحياة على أوجه صديقاتها والذي للأسف لا زال يحدث للكثير من النساء حتى هذا اليوم بعد الزواج، حيث تكرّس كل طاقة الحياة بها للزوج ويتغذى عليها كما لو أنه هو مركز كونها فتنسى نفسها وتدفنها!

تظهر بطريقة شاعرية صدمة الفتيات حين يتحولن بليلة وضحاها دون أي تنبيه إلى نساء! وتشير بخفة إلى الخجل والعار والحرج الذي تتوارثه النساء منذ ألاف السنين بسبب النزيف الشهري، واختيارهم لأسماء غريبة له أثناء حديثهم في محاولة تلطيفه بينما الحقيقة هم يخجلون منه ويحاولون إخفاءه لأنه أمر نجس وقذر كما أقنعهم الرجال! فكرهن أنفسهن لهذا السبب ولمن تخجل من أنوثتها وحقيقة كونها امرأة أودّ أن أقول لكِ: “أنتِ تملكين القدرة على الخلق، على الشعور والرعاية والاحتواء، على صنع الحياة بداخلك. في كل شهر يجمع جسدك كل قواه ويتهيأ لمهمة عظيمة ألا وهي خلق الحياة واستمرارها.. وهذه الحقيقة تريد منكِ الفخر بكونك امرأة.. لا تنسِ هذا أبداً.” تتحدث إيميلي عن قسوة وتسلط الأمهات، المعلمات، الراهبات وعارضته بنعومة أو ربما استحياء!

الجمل والعبارات في الرواية قصيرة ومقتضبة، الأفكار مكثفة وحادة، وكأن الفكرة شريحة مجهرية تحت العدسة تكبّر صورتها وتصغّرها بحرفية عالية. الرواية نافذة تُطل على حديقة جميلة، تتأمل من خلالها بالمفردات والوصف وطريقة السرد والألوان والحيوانات وتنوع الطبيعة، رواية مزهرة ومليئة بالدهشة؛ حتى في القصائد المخبأة في جيوب مريلة الطبخ ورائحة القرفة والقرنفل العالقة بها! التي صنعت بها بيوتاً من الورق داخل علب الطحين والسكر.

الكتابة سلاح توثّق به النساء حياتهن، وهذا ما فعلته إيميلي ودومينيك. ورغم التواري خلف الخيال في كثير من المشاهد، إلا أنك ستستطيع أن تُمسك بالأوجاع، والوحدة، والحقائق، والسواد في محاولة منهن للمقاومة والبقاء على قيد الحياة.. إن كان بإمكانك النظر والإبصار بالطبع! أحد الكتّاب الذين عرضت عليهم إيميلي قصائدها نصحها بعدم نشرها لأن القراء لن يفهمون ماذا تقول.. فصدّقته! لا تثقي بنصيحة شخص يغار من موهبتك وعملك ويكسر مجاديفك ولا يقدم لك توصية أو إرشاد بخطوات فعليّة لتطوير عملك. إذا كنت تنتظر قراءة رواية تحرّكها الأحداث فهذه الرواية ليست لك، هذه رواية حالمة، بل هي قصيدة نثر طويلة بديعة ومدهشة.. هذا التفرد والجمال يستحق التأمل والقراءة.

تقييمي للرواية 3.5 من 5.

“إذا قرأت كتاباً وجعل جسدي كله بارداً جداً.. فلا يمكن لأي نار ان تدفئني، أعلم أن هذا هو الشعر. إذا شعرت وكأن رأسي قد انخلعت، أعرف أن هذا هو الشعر. هذه هي الطرق الوحيد التي أعرفها. هل هناك أي طريقة أخرى؟!”

“أنا أسكن في الاحتمال

بيت أكثر جمالاً من النثر

به مزيد من النوافذ

وقليل من الأبواب”

“يحل الليل. كل شيء مغمور بالحبر. يظهر القمر منحنياً في منتصف السماء. يتمزق قلبها ببطء في صدرها. لا يحدث شيء تقريباً.”

“كتبت إيميلي:”عملي هو المحيط.” ويبدو أنها تتأرجح باستمرار على حافة الأشياء، بئر أو هاوية، بين عالم وآخر، على العتبة بين القصيدة وما لا يمكن وصفه، تفاحة في اليد، وقدم في القبر.”

“تحلم بقصائد يمكن قراءاتها في النجوم، لو تمكنت أخيرا من تعلم لغة المجموعات النجمية الخافتة. إنها تحلم بقصائد فنائية، معقدة للدوائر والمحيطات الرياضية. تحلم بسونات ذهبية يقتفي النحل أثرها في العسل.”

“لا تشعر إيميلي بالوحدة بقدر ما تشعر بها في الساعات التي تقضيها منحنيةً على الورق، وريشة الإوزة في يدها، والفأر الوهمي في الزاوية، وزيت مصباحها المأخوذ من حوت عملاق، والحبر.. الحبر الذي يأتي من بطن مخلوق رائع يعيش تحت الماء له ثمانية أذرع. قبل كتابة أي شيء، فإن الحبر نفسه يثير الدهشة بالفعل.”


اكتشاف المزيد من عائشة على القمر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

ردان على “بيوت من ورق – دومينيك فورتييه 🏘️🌺🍀”

  1. […] بيوت من ورق – دومينيك فورتييه 🏘️🌺🍀 […]

    إعجاب

أضف تعليق

اكتشاف المزيد من عائشة على القمر

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على تنبيه بكل تدوينة جديدة فور نشرها على بريدك!

مواصلة القراءة