سأستخدم جملة خوارق اللاشعور، والتي عُرفت كعنوان لأحد كتب علي الوردي، والذي لم أقرأ له أي شيء حتى اللحظة! عنواناً لهذه التدوينة، لأنها هي الكلمة التي تجلّت وظهرت في عقلي واختارها شعوري ليصف ما أحس وأفكر به منذ البداية.. بداية هذا الشعور الخارق.
هل هو ديجاڤو أم حُلم؟؟ أعلم أنّ هذا حقيقي أكثر من كونه حلماً، وأدرك أنه حلماً أكثر من كونه حدث من قبل. شعرتُ بكم، شممت رائحتكم، ولمستكم.. بل احتضنتكم.
أغلق عينيّ في الظلام، الغرفة باردة، والجو بارد. موسيقى ألبوم زاك هيمسي the way تضج في أذنيّ وأنا أحاول أن أتذكر.. أتذكر الطريق الأول الذي تقاطعت خطواتنا به.. وتذكرت!
الزمن: ظهيرة شتاء باردة وممطرة .. أواخر ديسمبر على ما أذكر، الساعة: الواحدة والنصف في إحدى الحدائق السكنية. كنا في الحادية عشرة من العمر.. أرتدي بنطالاً أحمر وبلوڤر شتوي وردي، وشعري الأسود قصير بالكاد يلمس كتفي، أتمرجح على أرجوحتي المفضلة وعينيّ كعادتها معلّقة بالسماء. إلى أن انتبهت للأعين التي تحدّق بي. فأدركت أني بقيت ألعب طويلاً، رغم أنه لم يمض من الوقت إلا أقل من خمسة دقائق!
فنزلت عنها وتركتها لك، لم أكن طفلةً كثيرة اللعب، اعتدت أن أترك ألعابي للآخرين وأشاركها معهم بشرط ألا يتلفونها. كنت أبقى ساكنة هادئة في مكاني، ألعب ألعاباً تناسب هدوئي.. إلا في المرّات التي توفر لي لعبةً ما طريقاً جديداً أتصل به مع نفسي.. في هذه الحالة أكثر من اللعب.
نزلت عنها وبقيت جالساً في مكانك، لم تتحرّك، لكن لا زالت تلك الأعين تحدّق بي بطريقة لم أعتدها. توقفت عن النظر إليك، أحاول أن أتجاهل تلك النظرات لأنه هذا ما كبرنا عليه عدم الاكتراث بالغرباء، لكن أنت لست غريب، طفل مثلي، لماذا لا أكترث بك؟! حين حان وقت العودة للمنزل، خرجت من سور الحديقة وأنا التفت بكل فضول العالم للخلف، لأجدك لا زلت في مكانك، جالساً متسمراً، مكتفياً بالنظر، ولم تتعنى حتى لسؤالي عن اسمي!
مضى على ذلك اليوم أعواماً كثيرة، ثلاثة عشر عاماً، إلى أن رأيتك بعدها لأقلّ من دقيقة في 2017.. بمكان عامٍّ آخر. لم أتعرف عليك حينها ومع هذا لم أستغربك أو استنكرك! بقيت أفكر أين رأيتك من قبل ولم أتمكن من التذكّر. هل تعلم ماذا يعني أن يفشل إنسان مصاب بلعنة الذاكرة الفولاذية بالتذكر؟! ألم خذلان الذاكرة.. أكبر من أي ألم.
حين نجح الوباء سيء الذكر بجمعنا للمرة الثالثة في هذه الحياة، لم أتذكرك ولم تتذكرني، ولم أعرفك ولم تعرفني. لكن ذلك الشعور (متأكدة أني رأيتك من قبل) لم يفارقني إلى أن تذكرت ذلك اليوم الشتويّ البعيد.
ولأني أعلم أنك خائفٌ وجبان منذ الأزل، لم أخبرك أنها أنا من كانت تتمرجح في تلك الظهيرة. لكنّي بشكلٍ ما أحييت ذلك اليوم في ذاكرتك.. ولم تفعل حياله أيّ شيء!
تنجح دائماً في الوصول إليّ، تجرؤ على وضع عينيك في عينيّ، تُمسك بيدي، تتحدث وتثرثر بعينين مبتسمة وقلب منشرح.. في الأحلامِ فقط! أمّا في هذه الحياة اكتفيت فقط بالثرثرة، وانتظاري لآتي وأمسك بيدك! رغم أني أمسكت بها بكل الطرق دون أن أضع راحة يدي بها.
أعلم عن الكثير الذي لا أستطيع أن أخبرك به، لأنك لن تحتمل معرفته، ربما تصاب بالجنون لو أخبرتك. لكن، كلّ ما يطاردني في أحلامي، سيطاردك للأبد. لأني أعلم تماماً أنك كعادتك لن تحرّك ساكناً وستكتفي بالتحديق بي، أما أنا سأتطلّع دائماً للأفق.
عائشة.



أضف تعليق