خرجت اليوم في الساعة الثانية عشرة ظهراً متجهة للعيادة، وحين وصلت أخبروني أن الطبيبة انتهى دوامها للتو وستعود عند الخامسة مساءاً. عرفت في تلك اللحظة أنني إن عدت للمنزل، سألغي موعد أشعة الثدي الذي أتخوف منه ولن أعمله للأبد، بالتالي لن أذهب لموعد المراجعة لدى استشاري الأورام بالغد أو بأي يوم آخر! لكن أنا لم أكن في أي يومٍ من أيام حياتي جبانة أو مستسلمة ولن أكن أبداً.

ورغم أنه موعد مراجعة روتيني يجب أن أجريه لأطمئن أن الكتلة لم تتكوّن مرة أخرى بعد إزالتها منذ عام، وبقيت أحدّث نفسي أخبرها أن هذا هو الفحص الثاني بعد العملية ولا شيء يخيف بالأمر حتى أهدأ، لكن هذه المواعيد ثقيلة، ثقيلة جداً على قلبي. وتفتأ عليّ جروح دفنتها ولم أعشها في حينها، أسأل الله أن يجعلني في عليّين في الدنيا والآخرة جزاءًا على ما صبرت.
أكثر ما ألمني بالأمس إدراكي لكل ما عشته من ألم ومشقة وتعب بمفردي، وكأن ثقل جبال الحجاز سقط على قلبي للتوّ دفعةً واحدة. لكن مرة أخرى.. ينجح الصوت في التربيت على قلقي وإزاحته، هو نفسه الصوت الذي يبحث عنه الأطباء في كل طفل حديث الولادة، ليتأكدوا من استجابته وبقاءه على قيد الحياة! السمع، الحاسّة الأولى التي خلقها وأنشأها الله بنا، وهي الحاسّة الأولى التي يكون بها مع عباده الذي نفخ فيهم من روحه، وهي الحاسّة التي ستحيا بنا لأول مرة في الآخرة.
بالأمس لم أنم إلا بعد أذان الفجر واستيقظت عند السابعة صباحاً، بعد أن سمعت في منامي أكثر صوت ينجح في إيصالي لحالة السكون والهدوء في هذه الفترة. وأنا أتفائل بهذا الصوت وصاحبه كثيراً، لأنه في الأوقات العادية يضاعف ويزيد ثقتي بنفسي، وحين أكون متوترة ينجح في تثبيتي، بفضل من ربي. “كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه”.
لم أذهب للمنزل، ولم أعد للجامعة، ولا أريد أن أكتب أو أن أعمل أي شيء.. أريد فقط أن أبكي. فقررت أن أذهب لمكتبة جرير وأقرأ الكتاب الذي كان في حقيبتي. وحين وصلت تمشيت بين الأرفف أبحث عن كتاب محدد أملكه باللغة الإنجليزية ولم يكن بجانبي لأكمل قراءته، لأن مزاجي في تلك اللحظة لم يكن متحمساً لقراءة الكتاب الذي معي. وجدت منه نسخة مترجمة للعربيّة، ففتحته وأكملت القراءة من المكان الذي توقفت به، وهذه المرة الأولى التي أقرأ بها كتاب بلغتين وأكمله كأني لم أنقطع عنه بسريالية رهيبة! ولي حكاية غريبة مع هذا الكتاب سأؤجلها لحين كتابة مراجعته، لكن هذا الكتاب وجدني ولم أجده، وكان هدية من عمي رحمه الله لي بعد وفاته!

أثناء قراءتي له، وجدت فيه شيئاً كنت أبحث عنه منذ مدة طويلة.. قرأت إلى أن أصبت بالصداع، ثم ذهبت للسينما لأشاهد فيلم فخر السويدي، لأني سأفعل كل شيء الآن إلا العودة للمنزل!

بعد أن أصبحت الساعة السادسة مساءًا كنت أقف أمام استقبال العيادة، ولم أنتظر سوى ٥ دقائق قبل أن أدخل للطبيبة، ولم أنتظر سوى ٥ دقائق لأدخل لغرفة الأشعة. جرى الأمر على ما يرام، انتظرت نصف ساعة ليصدر التقرير، وبدأت بكتابة هذا النص أثناء الانتظار. حين سمعت كلمة تقرير.. تذكرت أني لم استلم تقرير العلاج الطبيعي بعد أن انتهيت منه! ولأنه إذا هبّت رياحك اغتنمها.. ذهبت لهم فور خروجي، وبعد ١٠ دقائق كان التقرير بيدي. ذهبت للمنزل وأنا أفكر بتسخير الله ومعيّته لي اليوم، منذ الصوت الذي سمعته في حلمي وبكل أحداث يومي وتسهيله لكل ما ارتابت منه روحي وأنا متيقنة أن موعد مراجعة الغد سيكون برداً وسلاماً لأنه معي.
لماذا وضعت صورة القنديل في بداية هذه التدوينة؟ ليس لشيء محدد، أحب هذا الكائن الهلامي وسأكتب عنه قريباً. الكائن الذي كانت صورته في أول صفحة من صفحات منهج الأحياء الفصل الدراسي الثاني للصف الثالث الثانوي. أول دروس المملكة الحيوانية في قسم اللافقاريات، اللاسعات، له جسم الميدوزا وجسم البوليب. قنديل البحر.. الكائن الخالد.. الذي يملك إكسير الحياة.. القادر على التجدد.. الذي لا عقل له ولا أعصاب ولا يشعر بشيء.. ومع هذا يستطيع بلسعة واحدة من لسعات بعض أنواعه؛ على أن يرديك قتيلاً! ليس لأنه يدرك أنك عدوّه.. بل لأنه يريد أن ينجو ويحيا.



أضف تعليق