في وقتٍ مضى كان مجرد الانتباه لهذا اليوم وتمييزه ومعرفة دلالته في التقويم، يُعدّ أمراً هادماً ومهدداً للأدب والأخلاق والتربية، وقد توجِب العقاب. مما جعل من الحُب والحديث عنه عيباً وذنباً وكبيرة من الكبائر! واليوم تحيط بك القلوب والورود الحمراء، وتنبثق الإعلانات التي تحتفي به من كل مكان كأن شيئاً لم يكن! لكن لا أريد أن أتحدث عن هذا التحوّل أو عن الحُب الرأسمالي أو عن الحُب المشوّه.. بل عن ذلك الحُب الذي غنّى له جوزيف صقر وكتب له زياد الرحباني: “تعي نقعد بالفيّ.. مش لحدا هالفيّ .. حبيني وفكّري شوي .. بلا ولا شي! “.

عن الطفلة التي لم تلعب في حياتها سوى لعبة (أُحِب ولا أُحِب) لتُعبّر بها عن كل شيء بحياتها.. دون أن تقطع بتلات الورد وترميها في الأرض أو تكسِر أي قلب. أُحِب الموسيقى، وأُحِب الهدوء، وأُحِب الكتابة .. وأُحب أشياءًا كثيرة لم أعرفها بعد. ولا أُحِب الفوضى، ولا أُحِب القسوة، ولا أُحِب الخداع، ولا أُحِب الظلم.. أشياء قليلة تلك التي لا أحُبها وأعرفها جميعها.
عن الطفلة التي كانت تنتظر مجيء يوم الأربعاء كل أسبوع، ليس لأنه يعلن نهايته أو لأنه اليوم الذي وُلِدت به، أو لأنه يومها المفضّل، أو لأن كل جميل حدث في حياتها حدث في هذا اليوم. بل كنت انتظره لأني كنت على موعد عند التاسعة مساءًا مع فيلم هندي جديد على قناة الإمارات! دون أن تبالي بأي عين تقطع عليها هذه الدهشة أو تسخر منها أو تحاول أن تقتحم عالمها الذي لا تفهمه لتعبث به أو بها!
لكن قبل كل شيء..
ماذا تعني الرومانسية؟ ولماذا أصبحت مرادفاً للحُب؟ وكيف التصقت هذه الكلمة بمعاني رديئة مثل الضعف؟
هي كلمة فرنسية Romance تطلق على الشعر القصصي، أو الملحمي والفروسي. وهو نوع من الأدب أساسه هي العاطفة والخيال والأحلام والتأمل والتعبير عن الذات ورهافة الحسّ. يركّز هذا الأدب على الإنسان، وأفكاره، وشعوره، وإحساسه. وتشيع وتتداول قصصه بين الناس مثل الحكايات، وذروتها كانت في القرن الثامن عشر الميلادي. ومع مرور الزمن حُمّلت هذه الكلمة معاني أخرى مثل الشغف، والهيام وغيرها.
وفي عصرنا الحالي حصرت هذه الكلمة بالعلاقة الجنسية مثلما حُصِر الحُب، ولا تتحقق رومانسية هذا الزمن إلا بها. وهذه شهوانية ينتفي حُب ورومانسية الكثير بعدها! رغم أنّ الرومانسية والحُب ليست حصراً على المحبوب، بل تكون بين الأخوة والأصدقاء، والطبيعة والجمادات.. والأهم بينك وبين نفسك! وتطلق الكلمة كوصف على أي شخص يفكر ويعيش بطريقة خيالية وحالمة ووردية.. وهذا يُعدّ ضعفاً عند الكثير وانفصالاً عن الواقع؛ كما لو أنّ ما يعيشونه واقعاً أو حياةً بالفعل! فتأمل كيف تغيّر معنى الكلمة من الفروسية التي تمثّل وتعبّر عن النبل والجسارة والقوة.. للضعف! المزيد عنها في حديث د. رشاد حسن عن الأدب الرومانسي.
الرومانسيّون The Romantics!
ولأن الأدب ليس قصصاً وشعراً، بل حتى في الأفلام والموسيقى يوجد الأدب. سأتحدث عن وثائقي الرومانسيّون على نتفليكس الذي تابعته منذ صدوره وقبلتها كهدية لي من السينما الأقدم في الأرض في يوم الحُب. يتناول في حلقاته الأربعة عن بداية المخرج والمنتج السينمائي ياش راج وأفلامه وشركته YRF الأضخم اليوم في الهند. هذا الرجل الحساس، الحالم، الرومانسي الذي كان عن طريق أفلامه سبباً لبدء حبي وغرامي بالسينما الهنديّة!
أعادت لي مشاهدة هذا الوثائقي ذكريات كثيرة.. أحيت مجدداً في قلبي وروحي ودمي تلك البهجة والسعادة والرقص والخفّة التي أشعر بها مع كل فيلم هندي أتابعه. ليس لأنها أفلام متقنة أو خيالية أو مبالغ بها أحبها. بل لأنها نجحت في جعلي أعيش وأشعر وأحسّ بكل المشاعر إلى أقصاها.. البهجة، الدهشة، المتعة، الضحك، الحُب، السعادة، البكاء، الغضب، الفراق، الحزن، الأمل… وغيرها من المشاعر. جميعها عادت لي حين رأيت كيف صُنعت الأفلام التي أنقذتني وحمتني من كل غباء وحماقة ترتكب تحت اسم الحُب! لأنها جميعها Dil se! صُنعت من القلب ملوّنة ومفعمة بالمشاعر.

جنون القلب Dil to pagal hai.. هذا هو أول فيلم هندي شاهدته في أحد أيام الأربعاء على قناة الإمارات حين كنت في التاسعة أو العاشرة من عمري. في هذا الفيلم رأيت الساري الأبيض على مدهوري ديكسيت لأول مرة! وفي المرة الأولى التي سمعت بها الأغنية التي أعشق “كوي لاركي هي جابوه هستي هي” أعرف فتاة حين تبتسم، تُمطر السماء! شعرت أنّ هذه الأغنية صُنعت لي.. لأجلي أنا وحدي.. التي يرقص قلبي ويقشعر جلدي منذ اللحظة التي تُرفع بها المظلّة ويبدأ الأطفال بالقفز تحت المطر! والحقيقة أنّي أعرف فتاة لا تبتسم فقط حين تمطر السماء.. بل تحيا وتنتعش! أو كما يقول أحمد بخيت:
” أُجَنُّ بطفلةٍ فيها
كَبِرْتُ أَنا ولَمْ تَكْبَرْ..
طويلاتٌ ظفائِرُهَا،
قصيرٌ ثَوبُها الأَحمرْ..
إذا ضَحِكَتْ بوجهِ الغيمِ
إِكراماً لها يُمطِرْ”.
ياش راج شوبرا جعل بطلات كل أفلامه يرتدين الساري الأبيض، رغم انّه لون ارتبط بالحداد في ثقافتهم. إلّا أنه كان يقول: “هذا لون النقاء، والطهر، والبراءة.. كيف يُظلم هذا اللون الجميل في حصره بالحزن!” وإصراره على ارتداء سريديفي له في أول أفلامها رغماً عن أمها التي لم تخفِ تشاؤمها من فأل هذا اللون على ابنتها! وكيف بعد نجاح هذا اللون وجاذبيته التي لم يراها سوى ياش.. أصبحت ثيمة ثابتة يعبّر بها عن الرومانسية والحُب في أفلامه إلى أخر فيلم أخرجه “طالما لديّ حياة jab tak hai jaan “. هذا الفيلم الذي عشت معه الكثير منذ بدء إعلان تصويره إلى أن أُصدِر، والذي جعلني أدرك أهم معاني اسمي.. الحياة. أمّا أنا فأحب صور طفولتي إليّ كنت ارتدي بها الفساتين البيضاء.. ربما وجدت الطريقة التي أجعل أمي ترى بها كيف أعادت لي الأفلام الهندية برائتي!

راج، راهول، ڤير، ديڤداس، بريم، أوم، سوريندر، سامر، أكشاي، وغيرهم من الشخصيات التي أدّاها شاروخان وريثك روشن. اللذان لم أفوّت لهم أي فيلم، ولم أملّ من تكرار أفلامهم حتى هذه اللحظة، هم من جعلوني انتبه منذ الصغر ماذا أكره ولا أطيق من صفات شخصية وطباع في أي رجل دون تكبّد عناء التجارب المرير. والأهمّ من هذا كله.. الرجل الذي أريد.

ولاحظ أيّها القارئ أنني اخترت ممثلين الأول بدأ بأفلام الجريمة والأكشن، لأن ملامحه تناسب أدوار الشرّ وغير مؤهل لأن يصبح نجماً! قبل أن يورّطه أديتيا شوبرا بالأفلام الرومانسية للأبد. وهو شاروخان.. الملك.. الممثل ذو القاعدة الجماهيرية الأكبر في العالم! والثاني ممثل لم يعتمد على وسامته على الإطلاق، بدأ متأخراً في التمثيل لأنه كان يعمل كمساعد مخرج يهمهم بحوارات الشخصيات خلف الكاميرا، ومعظم أفلامه أكشن رغم أنّه يلقب بالإله الإغريقي وهو ريثك روشن!
روشنز The Roshans!
وبما أنّي جئت على ذكر ريثك روشن، أُصدر مؤخراً وثائقي لعائلته The Roshans تبدأ حكاية العائلة مع جده الموسيقي العبقري روشن. الذي توفي منذ أكثر من خمسين عاماً، ولا زال حيّا وخالداً بموسيقاه التي صنّفت كأصعب وأعقد الألحان تأليفاً. لأنه يستخدم ألآت متعددة ويقفز بين المقامات برشاقة لا مثيل لها. لا يمكنك حين تسمعها إلا أن تغرق في هذه العذوبة والشجن.. وتقشعر من شدة الإتقان والجمال!
روشن لم يكن يركّب النغمات على الكلمات، مثل ملحنين اليوم. بل كان يتأمل في الطبيعة، يقرأ القصائد والشعر بكثافة. يصنع لحناً لكل قصيدة، ويوفر مساحة لكل مغني ليتجلّى أثناء غناءه ويسلطن إلى أخر حدّ، فتحيا مشاعر كل كلمة في الأغنية! لم يكتفِ بتلحين القصائد، بل يقرأ الفيلم الذي سيؤلف موسيقى أغانيه، فيصنعها معبّرة ومجسّدة لمشاعر كل شخصية.
يصف ابنه المخرج الهندي راكيش روشن، أن والده كان يصاب بحالة أشبه بالهوس والجنون حين يبدأ بصنع أغنية جديدة. يقف في شرفة المنزل لساعات يحرك يديه ويعزف في رأسه، ولا يدخل للمنزل إلّا إذا انتهى منها! لاتا، أوشا، محمد رفيع أكثر من غنوا له.. بل أني ذُهلت حين عرفت أن أكثر أغاني محمد رفيع التي أحُب سماعها من ألحانه! وأظنّ أنّ أغنية ishq Bina من فيلم Taal صُنعت تحت تأثير هذه التحفة الفنية!
سانجاي ليلا بنسالي قال في الوثائقي أنّ موسيقي روشن بمثابة السحر لا تُحلل ولا تُشرّح، بل تسمعها لتحلّق معها وتسرح. وأستطيع القول أن روشن كان رومانسي من العيار الثقيل.. وبنسالي كذلك. أمّا أنا.. لا زلت لا أعرف لماذا تحُب ابنة الحجاز أغنية من عمر والدها، دون أن يربطها أي شيء بالهند إلى هذا الحدّ؟!
ربّما لأنها صُنعت من القلب وصلت إلى قلبي.. رغم بعد المسافات واختلاف اللغات والثقافات.
وبما أنّ الحديث عن الرومانسية وصل للرجل الذي ينسب نفسه لأمه، ويطارد في قصصه وأفلامه وموسيقاه حكاية كل ليلى.. سانجاي ليلا بنسالي. أعلم أيها الرجل اللعين أنك أول من حطّم قلبي! لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي شاهدت فيه فيلم ديڤداس لأول مرة.. في ذلك اليوم حين أُغلقت تلك البوابة بين بارو وديڤداس .. سمعت صوت ارتطامها في قلبي. خرجت من غرفتي ذلك اليوم بعد بكاء استمر ثلاث ساعات تماماً مثل مدّة الفيلم.. وحين رأت أمي وجهي الأحمر وعيناي المتورّمتان سألتني بكل هلع: “مين مات؟” فقلت: “ديڤااا… أوووه ديڤاا !!”. فاستخسرت تحطيم “ريموت” التلفيزون على رأسي!

Adsiz Asiklar العشّاق المجهولون!
هذا عنوان لمسلسل تركي أصدر منذ شهر تقريباً باسم Adsiz Asiklar من بطولة فوندا ايرغيت وخالد ايرجنش. الإثنان هم أطباء نفسيين كلاهما له نظرته المختلفة عن الحُب. فخالد يؤدي شخصية جيم، وهو طبيب نفسي يعاني من الرهاب الاجتماعي منذ صغره. وبسبب سمنته، قامت والدته بتأجير فتاة لتخدعه بحُبها له؛ حتى تجبره على إجراء عملية تكميم! وبعد إجراءه للعملية اختفت من حياته دون أي أثر، مخلّفة ورائها الكثير من الصدمات والغباء والعلل.
جيم عمل في جريدة للرد على أسئلة القرّاء حول علاقاتهم عوضاً عن طبيب أخر.. النجّار المخلّع بابه ينصح ويوصّي ويحلّ! ثم قرر والد فوندا (هازال) الذي هو كذلك الطبيب المتشاغل الذي لا يجيب عن الاستشارات التي تصله، أن ينشئ مستشفى للعلاج من مرض الحُب! وبالطبع الطبيب في هذا المستشفى كان جيم، الذي كان يقابل المرضى ويشخّصهم عن طريق شخصية أخرى تنتحل شخصيته من خلال ارتداءه لسمّاعة ويجري عليهم تحاليل وتجارب ليثبت لهم أن الحُب مرض وسيعالجهم منه! ما قلت لكم علل ومتاهات ولف ودوران وخداع.. ويبغون يعالجون المرضى من مرض غير موجود!

بينما هازال فهي على نقيضه تماماً شجاعة، جريئة، تقف خلف ما تؤمن به بقوة. هربت من والدها لألمانيا لأسباب كثيرة، أنشأت عيادتها دون أن تكمل دراستها! ولأسباب مالية تجد نفسها متورطة في العمل بمستشفى والدها الذي أسّس على نقيض ما تؤمن به. فهي تؤمن وتصدّق أنّ الحُب شفاء وعلاج لكل مرض. وتحاول أن تقنع جيم بهذا من خلال علاجهما المشترك لكل مريض يدخل إلى المستشفى يعاني من الحُب. الكثير من الشدّ والجذب بين الشخصيتين أثناء علاجهما للعشاق المجهولون إلى أن تحدث المفاجأة في أخر مشهد منه! المسلسل من ثماني حلقات على نتفلكس، ومن أجمل الأعمال التي شاهدتها مؤخراً عن الحُب.
الحُب.. Love.. Ask.. pyaar
ولأنه لكل منّا أعمال يُحب أن يضعها على الشاشة وهو يعمل أعماله المنزلية أو أعماله التي تنتقل معه للمنزل! أعدت مؤخراً مشاهدة مسلسل العشق عناداً الذي لا يفشل في جعلي أضحك و “أكركر” إلى أن ينقطع نفسي. أثناء كتابتي لهذه المقالة ظهر هذا المشهد وتعجّبت من إصرار يشيم على تعليم خطيبها شينار الرومانسية! ولأنه لا يوجد صدف في هذه الحياة.. وكل شيء يحدث في وقته المناسب، شينار ويشيم من أكثر الشخصيات التي مثلت الحُب بصدق! الثقة، المرح، الاختلاف، الذكاء، الدلال، الوضوح، الصدق، الغضب، السلاسة، الانسجام، الإنكشاف العاطفي vulnerability، الرعاية، التقدير، والحُب والكثييير من المشاعر رغم كليشية قصة المسلسل وسخافتها!
قرأت الكثير من الشعر وقصص الحُب، وشهدت على بعضها. وسمعت الكثير من الأغاني، وتابعت الكثير من الأفلام والمسلسلات.. لكن تبقى الجملة التي قالها أولاش لإيرام اللذان كانا مغرمان بصوت سيزين آكسو في الفيلم التركي شريط منوّعات Karisik Kaset. جواباً على سؤالها حين علمت أنّه أفترق عن حبيبته، عالقة في ذهني إلى هذه اللحظة.
“إيرام: لماذا افترقتما؟؟
أولاش: ذوقنا الموسيقي غير متوافق!”
ثم هزت رأسها بأفهم الأمر! من أكثر الجمل الرومانسية المعبّرة عن الحُب التي مرّت عليّ، فهي رغم بساطتها إلّا أنها كثيفة وعميقة ومعقّدة وواضحة!

إذا لم تغرق في نفسك، ولم تحاول أن تعرفها بتعريضها لكل ما يجعلك تُحب الإنسان الذي بداخلك وتتصل به. كيف ستعرف ماهو الحُب؟ كيف ستُحِب أو ستُحبّ؟ بالورد.. بالهدايا.. بالمجوهرات.. بالمال.. بالوعود الفارغة.. بالكلمات المزيفة؟ ستذبل، سينتهي تاريخها، ستنتهي موضتها، سيتضخم، ستتبخر، ستظهر حقيقتها.
لذلك قبل البدء بالاحتفال بعيد الحُب، وضياع الوقت بالتخطيط له برومانسيّات زائفة.. حاولوا أن تتعرّفوا على الحُب والرومانسية الحقّة، مجرّدة من كل شيء أثقلها.
أمّا أنا سأحتفي بقعدة جميلة في الفيّ تحت الغيم أغنّي له.. حِبّني “بلا ولا شي!” .



اترك رداً على Aeshah إلغاء الرد