(فإنك بأعيننا) في كل سنواتك.. حتى الكبيسة منها!🧿📿

يقول علي عكور: “ما يحدث هو أن أحدهم يعرقل يومك فتدخل الأيام التالية وأنت تعتني بيومين”. أنا أحمل اليوم أسبوعاً فوق ظهري ليس يومين فحسب.. اليوم أنا أعتني بسبعة أيام، ولا زلت لم استوعب وأصدّق اليوم الأول منها لأدرك الأيام التي تبعته.

علاقتي مع السنوات الكبيسة لم تكن في أي سنةٍ منها جيّدة، أشياء كثيرة مفصلية قلبت حياتي رأساً على عقب حدثت ولم تحدث إلا في هذه السنوات! وحين أكتب هذا يعلم الله أني لا أقصد أو أنوي سبّه عزوجل أو سبّ الدهر لكن أكتبه كإنسان يعود لشريط حياته ليعرف أين سقط حجر الدومينو لأول مرة؟ من باب التوثيق مثلما كنا نسمع حدث في سنة “السبلة” أنا سأقول: “حدث في سنة كبيسة!”

إذا ما سألني طبيب في يومٍ ما عن اليوم الذي شعرت به بالاكتئاب لأول مرة؟ رغم أنهم لن يسألوا هذا السؤال الذي يحمل في طيّاته التشخيص أبداً! لكن لنفترض أنهم أصيبوا بطفرة وراثية جعلتهم يسألون هذا السؤال.. سيكون جوابي: “يوم السبت التاسع والعشرين من فبراير 2008 الساعة السابعة والربع صباحاً وسأضع إحداثيات الموقع الذي كنت به، مصحوبة بدرجة الحرارة وماذا كنت ارتدي وكيف كنت أرتب شعري.. في هذا اليوم الكبيس سقطت قطعة الدومينو!” ثم سأضحك وأخبره تعليقاً ساخراً عن ذاكرتي الفولاذية وأتبعه بسؤالٍ واحد: “أنا لا يهمني كل هذا.. أنا سأحكي لك لأعرف فقط جواباً واحداً… لماذا؟؟ أنا لم أجد هذه اللماذا.. فربما أنت تجد لي هذه الإجابة.”

مضى أكثر من نصفِ عمري وأنا أحاول الاعتناء بما بقي من روح عائشة التي عرفتها، الروح التي تبزغ أحياناً حين يناديني من اعتدت أن أسمع منهم شوشو بعد مضيّ سنوات كثيرة. الروح التي أجدها تشعّ من عينيّ في بعض صور طفولتي وأشكر الله على أمي التي التقطتني كما أنا. أو الروح التي أحيتها بداخلي مقاطع فيديو لشريط كاميرا قديم صوّرته أمي لي ولأخوتي.. كذلك في سنة كبيسة .. ههه للتو ألاحظ هذا! كانت قد سألتني أمي بعد أن شاهدته منذ عامين: “كان فيك براءة.. فين راحت؟” لم أكن أملك جواباً على سؤالها، لكن اليوم أستطيع أن أقول أنها بدأت بالذوبان في ذلك اليوم الكبيس ولم يبق منها شيء هذا الأسبوع، مثل أشياء كثيرة انتهت.

كان سيكون هذا الشهر مختلفاً عن بقيّة هذه السنة.. ففي الثامن عشر من نوفمبر، ذهبت لاستشاري الأورام لأحصل على نتيجة الأشعة التي أجريتها قبل أسبوع من الموعد، لأطمئن على نفسي بعد أن أزلت منذ عدّة أشهر ورم غدّي حميد ولله الحمد في الثدي. تنفست في ذلك اليوم الصعداء لأنه لم يتكوّن مجدداً، ولا يوجد سوى كتلة صغيرة حميدة لا يتجاوز حجمها 1 سم ولأجلها سأستمر بإجراء الأشعة كل ستة أشهر لمراقبتها.

وسأستغل الفرصة هنا لأشجع وأطلب من جميع النساء اللواتي يقرأن أو يتابعن أو يتعثرن بهذه المدونة، راقبوا أجسادكم ولا تتهاونين أو تقللين أو تستخفين بأي تغيير يطرأ عليك. تشجعي وكوني قوية وتوكلي على الله وقومي بإجراء جميع التحاليل والفحوصات الدورية بانتظام. ولا تعطي الخوف من المستشفيات والمرض أكبر من حجمه. وإذا ما كان في عائلتك تاريخ إصابة بالسرطان كوني أكثر حرصاً على الفحص وفي التحقق من أي كتلة تلاحظينها. فكل مرض يشخّص مبكراً يُصبح علاجه أسرع. وتأكدي دائماً من مستويات الحديد ومخزون الحديد وفيتامين د وارفعيها لأن نقصانها يحفّز تكوين الأورام؛ حميدة كانت أو خبيثة لا سمح الله.

سأعود الآن لنوفمبر.. كان من المفترض أن يكون اليوم هو موعد جلستي الأخيرة في العلاج الطبيعي، الجلسة رقم 58! نعم ذهبت إلى كل هذه الجلسات لأن فقدان الشهيّة والوزن والنحول الذي مررت به.. أدّى إلى تفاقم مشاكل كثيرة في كتفي وظهري وعمودي الفقري! كان من المفترض أن احتفل اليوم.. لكنِّ أجلس الآن أكتب أمام الشاشة ولديّ موعد ينتظرني في الغد.. وموعد أخر في الأيام التي تليه وربما مواعيد جديدة إذا ما رأت الإخصائية الرابعة التي تعالجني في هذه الرحلة الطويلة أني سأحتاج لجلسات أكثر!

ذهبت إلى جلسة العلاج الطبيعي الأحد الماضي في تلك الظهيرة المفجعة.. والتي لا زلت أحملها معي وعيناي حمراء مثل الجمر من شدّة البكاء، انتحبت من شدة الصدمة والخوف والعجز والقهر الذي شعرت به في تلك اللحظة. لم يتحدث السائق طوال الطريق للعيادة .. عيناي مثل الجمر تشتعل ودموعي تسقط كالصخور.. كبيرة.. حارة.. ويدي على صدري أحاول أن أتنفس.. وأدعو يارب سلّم. لا أذكر متى كانت أخر مرة بكيت بها في مكان عام.. لا.. لم أفعلها أبداً طوال حياتي. لا أذكر ماذا فعلت في تلك الجلسة.. سوى أنّ دموعي كانت تسقط كالمطر على الأرض بينما أنا مستلقية أنظر للأسفل وظهري ممتلئ بالأسلاك.

في طفولتي حين كان يرى أبي أثار البكاء عليّ يطلب مني ألا أبكي إلا من الفرح ثم يتراجع ويقول لا حتى في الفرح لا تبكين أضحكِ دائماً.. كنت أظنه يقول هذا لأني أصبح بشعة حين أبكي ووجهي الجميل لا يُحتمل النظر إليه! لكنِّ علمت بعد زمن إني حين أبكي كل خلية في جسدي تبكي معي، وحين أفرح كل خلية ترقص معي، وحين أغضب كل خلية تشتعل معي! كان أبي ينبهني على هذا الحسّ المرهف ويحاول أن يحميني منه.. كان يودّ أن يحميني من حقيقة عائشة التي تحيا بداخلي. كم أتمنى في هذه اللحظة لو كانت مشاعري ودموعي مثل التماسيح.. مثلكِ تماماً يا غزالة.

لم أبكِ حتى حين ذهبت لأفحص الكتلة التي وجدتها في ثديي هذا البكاء! لم أبك والطبيبة تخبرني بكل الإجراءات التي تلي الأشعة والخزعة وتحديد ماهيّة الورم وإزالته وما سأمرّ به.. بكيت بعد أن عدت للمنزل فقط لأني فكّرت بأبي الذي كانت تشغله مناعتي المنخفضة وفي كل مرة يهاتفني بها يتأكد: “تاكلين من العجوة؟ تاكلين من العسل؟ تاكلين حبة البركة؟” حتى حين طلبت من أمي أن تخبره عن الورم بعد أن أزلته وبمفردي.. أظن أنه لم يسمعها جيداً وسأل سؤال واحد: “مناعتها ارتفعت؟” فضحكت وقلت نعم ارتفعت. وحين أقول بمفردي هنا لا أقولها لأني شجاعة وقوية وقاهرة الصعاب والمستحيل! أقولها لأن الحب منعني أن أخيف وأُقِلق من أحب بمن يحبون وعلى من يحبون.. لأجل هذا فقط.

بعد أن أجريت العملية بخمسة أيام، ذهبت إلى محل هدايا صغير وأنيق ومرتب يشعّ بالهدوء والسلام من جميع أركانه.. وأثناء تجولي فيه وجدت هذه الميدالية (فإنك بأعيننا) لم أشعر فقط أنها لي.. بل أن الله كلّمني واستجاب لي عن كل مرة دعوته بأن يكون معي.. فأكرمني وجعلني في عينيه. اشتريتها على الفور ووضعت مفاتيحي بها لأتذكر هذا كل يوم.

لن أسامحكِ طوال عمري يا غزالة على ما فعلتيه.. هذا القهر والعجز الذي عشته وأعيشه الآن لأول وأخر مرة في حياتي لن أغفره لكِ ما حييت. هذا الألم الحاد الذي يقطّعني ويمزّق قلبي بنغزاته منذ تلك الظهيرة وطوال الأيام السابقة لن أغفره لكِ. هذه العينين التي التهبت ولا زالت ملتهبة من شدّة البكاء.. ولم تكن تبكِ عليكِ، بل على حطامكِ الذي لا أعرف حتى هذه اللحظة كيف سأجمعه لن أغفره لكِ. هذا الخوف والجرح الذي جعلتيني أعيشه لن أسامحكِ عليه. هذا الصوت الذي وجد له سبباً جديداً ليختفي ويختنق وهذه الغصّة العالقة في حنجرتي.. التي تركتها لي، لن أغفرها لكِ.

فعلت كل ما يمكنني فعله لألهي نفسي، لأتوقف عن البكاء، لامتنع عن التفكير، لأصبح جامدة باردة لا أحس ولا أشعر حتى لا اكترث بكِ وأنسى ولم أستطع. لم أحزن أوأبكي أو أشعر بكل ما أشعر به الآن لأجلي لا في مرضي ولا في علاجي الطويل المملّ ولا في كل شدّة مررت بها طوال حياتي.. تخيّلي! فكيف سأغفر لكِ؟

سأصبر، سأصطبر، سأتصابر، وسأُصبِّر.. لأنه اليوم فقط وسط كل هذا الهدوء من حولي .. استقرت روحي وألهمني الله: ربما انهرت كل هذا الانهيار لأن الله يريد منّي أن أحمل على ظهري الذي استقام وكتفي الذي عاد لمكانه.. من أحب!

سأحمي أيامي ومستقبلي وأيام ومستقبل من أحب منكِ.. سأحمي كل أيامي وسنواتي القادمة.. حتى الكبيسة منها سأحميها منكِ. هذه هي المرة الأخيرة لها.. لن تكبس على روحي أكثر مما فعلت، ربما كان يجب أن يحدث ما فعلتِه لأعود وأنفض كل الضيق الذي تركته عليّ تلك السنوات… لتتلاشى معكِ للأبد.


اكتشاف المزيد من عائشة على القمر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

5 ردود على “(فإنك بأعيننا) في كل سنواتك.. حتى الكبيسة منها!🧿📿”

  1. صورة أفاتار مأمون القاصري

    لافض فوك . أنا من شدة إنجذابي لقصتك وتفاصيلها أدهشني أضعاف ذلك براعتك في الكتابة وأسلوبك الرائع في سرد القصة

    Liked by 1 person

    1. صورة أفاتار Aeshah
      Aeshah

      أهلاً بك مأمون..
      أسرّتني قراءتك لما كتبت
      وأشكرك على كلماتك الطيبة🌹

      إعجاب

  2. صورة أفاتار لا تقبلين القِل وأنتي كثيرة ..🧚‍♀️🎑🎶 – عائشة على القمر

    […] جلداً حساساً ولا تبرأ جروحه سريعاً تماماً كروح صاحبته. في صباح ذلك الأحد يا غزالة، قرصتني ثلاث بعوضات في ظاهر كفّي الأيمن.. لا زالت […]

    إعجاب

  3. صورة أفاتار ساعة شهرية | غروب ديسمبر ١٩٤٨

    […] « (فإنك بأعيننا) في كل سنواتك.. حتى الكبيسة منها »: ”سيكون جوابي: « يوم السبت التاسع والعشرين من فبراير […]

    إعجاب

  4. صورة أفاتار رحلتي مع العلاج الطبيعي🩻💪🏻 ١٤ شهر من الألم والإصرار والأمل..!🧘🏻‍♀️✨ – عائشة على القمر

    […] الجلسة رقم 82، بعد كتابتها ومراجعتها لأكثر من شهر. كنت قد أخبرتكم من قبل أنه قرر لي 58 جلسة، لكنها زادت إلى أربعة وعشرين أخرى، ذهبت إليها […]

    إعجاب

اترك رداً على مأمون القاصري إلغاء الرد

اكتشاف المزيد من عائشة على القمر

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على تنبيه بكل تدوينة جديدة فور نشرها على بريدك!

مواصلة القراءة