كبشر جميعنا نشعر بمشاعر الحزن، والفقد، والحداد، والرثاء، وتختلف طريقة كل انسان في تعامله مع هذه المشاعر ليستطيع فهم ما يمرّ به أو مساعدة من حوله. بدأت بالبحث والقراءة في عدد من الكتب المتعلقة (في تعامل الشخص الحي المتبقي بعد فقده لمن يحب) في فبراير 2019، بعد أن فقدت جدة أمي، والتي لم أكن أعتقد أنّ موتها قد يؤثر بي إلى هذا الحد!
تختلف ردود أفعال البشر عند تلقيهم أي خبر حزين من انهيار، أو بكاء، أو ضحك، أو صمت فما بالك حين يكون هذا الحزن مرتبط بالموت. أفكر كثيراً بحياة كل شخص بعد الفقد، بعد أن ينتهي العزاء والاكتظاظ البشري الذي يُفترض منه المساندة والمواساة وما يحدث فعلاً في هذه الأيام الثلاثة بعيد على الإطلاق عن جوهرها. أفكّر بصديقتي التي فقدت والدها أثناء حجر كورونا وهي خارج السعودية أفكّر بعجزي التام حينها عن مساعدتها فعليّاً.. بماذا ستواسيها كلماتي أو صوتي! قلت لها حينها: لا تكبتِ أي شعور تشعرين به.. عيشي لحظاتك الحزينة بأكملها. أفكّر بزوجة عمي والتي بعد وفاة شقيقها بعام، أخبرتنا في يوم العيد أنّها كانت تريد أن تخبر ابنها (لا تنسى تمر تجيب خالك اليوم لأنه ما يقدر يسوق) ثم تذكرت أنّه ميّت منذ ما يقارب العام بعد أن وقفت أمامه قبل أن تتحدث! فابتلعت غصتها واخترعت حديثاً آخر.
حين أرى محاولات الأقرباء أو الغرباء في تهدئة المكلوم الذي يبكي، أو في محاولة إبكاء الشخص الصابر الثابت أفكر ماذا يريد الإنسان فعلا؟ هل يريد النفع لمن هو أمامه فعلاً؟ دعه وشأنه هو أعلم شخص بنفسه وبحزنه.. اسأله كيف أساعدك؟ أحضنه وأنت ساكت إذا كان يبكي، ربّت على كتفه إذا كان صامت، لكن لا تجبره على أي فعل لا يود فعله. أعلم أن معظم البشر بحسن نية يسيئون تصرفهم في هذه المواقف دون أن يقصدوا، لكن لا توجد أي معرفة كافية بأدب الفقد والرثاء وكل ما يفعله البشر في تلك اللحظة هو من اللاوعي تماماً وبقدر اتصالهم بإحساسهم ومشاعرهم.

إن أخذ الموت منك شيئا ردّه إليه
كتاب للمؤلفة الدنماركية نايا ماريا آيت، يتكون من 167 صفحة من ترجمة دار المتوسط. نايا كاتبة وشاعرة فقدت ابنها حين كان عمره خمس وعشرين عاماً فكتبت هذا الكتاب له. كتبت عنه وعن طفولته وحياته وأحلامه وذكرياته من خلال مذكراتها التي كانت تدوّن بها كل ما يلفت انتباهها عنه وعن أخوته وعائلتها.
هذا الكتاب بدأت في قراءته بداية العام الماضي، أثّر بي للغاية إلى حد أني لم أستطع الكتابة عنه. كنت أقرأ وأنا استمع إلى أغنية تركية في وضع التكرار أسمها Arıyorum وتعني إني أبحث! وضعت رابطها مترجمة. لن أحلف أني سمعت هذه الأغنية لأول مرة في ذلك اليوم وشهقت مع كلماتها التي تتناسب مع ثيم الكتاب دون أي تخطيط للأمر! مما جعلني أكررها مراراً طوال قرائتي. اليوم حين أسمعها أتذكر كارل إميل الذي عرفته دون أعرفه مما قرأته عنه.
أن يرثيك كاتب! ما هذه النعمة التي نلتها دون أن تعرف عنها.. أن ترثيك أمك التي يصدف أن تكون كاتبة وشاعرة! ما هذا القدر الذي سيّرها في الألم لتخلق تحفة فنيّة في أدب الرثاء من خلال فقدها لمن تحب! كنت أقرأ وخيالي يصوّر لي كل موقف أو حلم أو ذكرى تحدثت عنها، مشاعرها وصلتني وأبكتني كثيراً.
(رأيته يسير مرتدياً سترته الخضراء، متجهاً نحو الغابة موغلاً بها أكثر وبجانبه نمراً يسير معه.. دون أن يفهم لما كان وحيداً) هذا كان حلمها قبل وفاته.
تحدثت عن اسمه وكيف اختارته، كارل إميل والذي يعني اسمه الرجل الشاب الطيب المتحمس الكدود (الذي يحب العمل). الذي اكتشف موهبته بالطبخ وكان يعمل في انتاج الأفلام هذا ما كانت تعرفه في حياته وبعد موته اكتشفت أنّه كان شاعراً كذلك ومعظم ما كتبه عن الموت! شخصيته التي تصفها بأنه كان قويا وهادئاً وبه شيء مبهما عليها جعله بشكل ما يعاني وحيداً. كيف أثّر طلاقها من والده عليه وأنه بشكل ما شعر بأنه غير مرغوب أو منبوذ! هي التي حين حملها به رأت أنها تحمل في أحشائها نمراً صغيراً! كيف أنها كانت تودّ لو يعود للحظة واحدة لتطمئنه وتخبره إلى أيّ حدّ كان شعوره هذا زائفاً.
في عيد ميلاده الثامن عشر أصرّ كارل على إعداد وجبة العشاء لقرابة الخمس وعشرين شخص بنفسه، رغم أنّه لم يطبخ مسبقاً! أختار أن يعد وجبة عربيّة وكانت تساعده أمه، في ذلك اليوم اكتشف موهبته بالطبخ!
كارل له حكايته مع الموت والأفكار الوجودية منذ كان طفلاً! ففي السابعة من عمره كان يفكر بالكون ومما خلق منه، وحين كان بالخامسة من عمره بعد وفاة أحد أقاربه قال لأخيه وابن عمه الذين يقاربونه في العمر “حين أموت لا أريد أن أحرق! أريد أن أدفن عميقا جداً تحت الأرض في مقبرة”. في الرابعة من عمره حينما كانت أمه تقرأ تحت شجرة منغوليا في بيت جدته، وكان هو يتسلقها ويختباً داخل أغصانها وفروعها.. ناداها من الأعلى وقال: “حين أصير ميتاً أريد أن أدفن تحت شجرة مانغوليا جدتي”
في عيد ميلاده الخامس والعشرين ألقى جده لأبيه الذي كان عمره حينها 79 عاما كلمة بسيطة قال فيها: (هناك شيء مميز في الرقم 25 .. كالميدالية الفضيّة يشع ويلتمع .. وها هو كارل يقف مثل إله إغريقي خلف قدور حساءه وبهاراته).
عند وفاة جد أمه الذي ناهز 94 من عمره وفي حديث مع أمه عن الموت قال: ” أنا لست خائفاً من الموت، لم أكن خائفاً يوماً” وعلّق على خوفها من الموت ورغبتها بأن تُحرق بالضحك وقال: ” أنا أريد أن أدفن، أريد أن أكون جزءاً من دورة الطبيعة الكبرى، أنا أحب الطبيعة وأريد أن أكون جزءاً منها”.
عند وفاته.. زرعت أمه عند قبره شجرة مانغوليا، وزينت تابوته بأزهار مانغوليا شجرة جدته التي كان يتسلقها مع أنواع أخرى من الورود. وبعد شهر من وفاته كانت أول جملة تكتبها ” للمانغوليا وجود .. إنها تمتص قوتها عميقاً من تحت الأرض”.
بعد مرور عدة أشهر على وفاته وفي ليلة عيد ميلاده؛ حلمت به والدته جالساً على سلّم المنزل، فسألته: كارل هل عدت؟ فقال: “لديّ بضع مشاكل مع الحب! أتيت لآخذ شيئاً، ولكن ليس بمقدوري دخول الشقة، ليس معي مفتاح” فجلست إلى جانبه أمسكت يديه واتكأ على كتفها وحضنته.. كان هادئاً وقوراً متماسكاً.. كان مرتدياً سترته الخضراء.
نايا عزفت ألمها في هذا الكتاب على الناي، يصلك شجن شعورها وكأنها فقدته بالأمس، إحساس الشاعرة بها ساعدها في إيصال والتعبير عما تشعر به جيداً. جوان ديديون في عام التفكير السحري سبرت الموت وفقد زوجها وابنتها بمصباح تحاول به أن تفهم وتُدرك.. نايا تخبرك أنّك لن تتجاوز ألم فقد من أحببت لو مضى عليه دهراً وأنّك ستتذكرهم في كل ثانية ولحظة!
كل روح تستحق أن ترثى ويُذكّر بها، كل روح تستحق أن تخلّد أثارها والتي وإن كانت لا تعني شيئاً للعالم.. إلّا أنها تعني لمن حولها الكثير.
إلى كارل إيميل الذي ولد في مثل هذا اليوم الثلاثاء الواحد والعشرين من نوفمبر من عام 1989م الساعة 14:32 ظهراً .. كنت هادئاً نعم لكن صوتك وصل إلى العالم أجمع.
“أطرقُ
لا صوت..
أصيحُ
لا صوت..
أصرخُ
لا صوت..
ستارة داكنة على وجهي”. نص كتبه كارل إميل.



اترك رداً على baa7r إلغاء الرد