
قبل أن أنام ليلة البارحة اجتاحتني رغبة قوية بالكتابة، قررت أن أؤجلها إلى الصباح لأني لو بدأت لن أتوقف.. أعرف جيّداً هذه الشرارة فهي لن تخفت أو تهدأ قبل أن تنهي كل الخشب الذي أمامها؛ على فرض أننا نحمل بدواخلنا جذوعاً جافة ويابسة ينبغي لنا أن ننتزعها ونتخلص منها حتى لا تحرقنا. حين جاء الصباح تجاهلتها ولم ألتفت لهذه الرغبة الملّحة هذه إلّا قبل النوم وكأن مصيرها أن تُجسّد في الوقت نفسه من الليل.
“ما الذي يدفعك للاستيقاظ كل يوم؟”
تكررت عليّ الجملة السابقة خلال الثلاث أشهر الماضية من عّدة أشخاص في عدّة أماكن بأكثر من لغة! أخر مرة سمعتها في مسلسل أتابعه؛ أوقفت حينها المشاهدة وكتبتها في الملاحظات وقلت هذه ليست صدفة، هذه إشارة. تكرر سياق الجملة بأكثر من طريقة منها: إذا وجدت سبب أو هدف أو غاية وجودك بالحياة ستنتظر مجيء اليوم القادم بحماس، بل أنك ستنام ليأتي الغد أسرع لتعمل على هذه الغاية. تتابع هذه الجمل جعلني أسأل هذا السؤال لنفسي وهو سؤال ثقيل جداً أن تسأله لنفسك في الصيف، من يسأل هذه الأسئلة الوجودية في الصيف! ما الذي يدفعني لانتظار الغد؟ ما الذي يدفعني للاستيقاظ كل يوم؟ عدا حقيقة أني سأنال كوب جديد من القهوة. خضت أحاديث طويلة حول هذا السؤال وشعرت ببعض السأم لأني لم أجد في كل ما أفعله دافعاً أستيقظ لأجله كل يوم.. ليتغير السؤال إلى: وهل أنا استيقظ كل يوم؟
ماهي اليقظة؟ ببحث سريع في قوقل وجدت أنّ اليقظة هي نقيض النوم، أو هي الوعي والاستجابة والمشاركة المعرفية والسلوكية تجاه العالم الخارجي أو القدرة على الحفاظ على حالة الانتباه ضمن الوقت الحاضر لأطول مدة.
لا أعلم لماذا سمعت أغنية Hic Isik yok في عقلي أثناء قراءتي لمعاني اليقظة والاستيقاظ المختلفة. في الوقت الذي كل ما كنت أرجوه هو معرفة هل أنا مستيقظة؟ ليتحول السؤال إلى ما هو النوم؟ وببحث أسرع في العم قوقل وجدت أنّ النوم هو حالة استرخاء تقل فيها الحركة الإرادية، تتغير فيه موجه الدماغ الكهربائية ليسمح للجسد بالقيام بالعديد من الوظائف الحيوية التي لا يقدر على القيام بها أثناء اليقظة.
لم أصل إلى أي شيء عدا أننا على غرار الموتى السائرون نحن النيام السائرون لسنا بالمستيقظين ولا بالنائمين، مترنحين في عالمٍ مخفي بينهما؛ فوضعت الأمر على الرف. عدا أنني تواجهت مجدداً مع حقيقة كراهيتي لحصر الأجوبة بين نعم أولا، صح أم خطأ، يمين أم يسار، شمال أم جنوب، أبيض أم أسود، عقلك أم قلبك. وهذه لعنة أن تكون رمادياً، تستطيع أن تجد الإبرة في كومة القش، يمكنك أن تعرف الصح بين مئة خطأ ولا يمكنك أن تعرف هل أنت مستيقظ أم نائم. كيف يقولون إن أزمة هذا العصر هي تعدد الخيارات!؟ أرى أن الأزمة الحقيقية هي الحصر بين اختيارين، إن ربحت ستحلّق عالياً وإن خسرت ستهوي رماداً.
أيّها الإنسان ما الذي يدفعك للاستيقاظ كل يوم؟ ماهي إجابتك على هذا السؤال بشفافية وتلقائية بعيدة تمام البعد عن روتين العيش اليومي المرتبط بالدراسة أو بالعمل أو العائلة وما شابه. ما الذي يحييك؟ ما الذي يحفزك ويشعل روحك؟ من أنت؟ لا أعلم لماذا تذكرت هنا أندريه سكاف في مسلسل الفصول الأربعة الذي أعدت مشاهدته في الصيف وكان أندريه يلعب فيه بدور شاعر مغمور اسمه برهوم يظن أنه أشعر الشعراء، برهوم فقد ذاكرته في إحدى الحلقات بسبب سقوطه أثناء تعديل “صحن الدش” ولم يتذكر عن نفسه حين استيقظ سوى أنه هو “أنا الذي” متقمصاً لشخصية المتنبي التي يأمل في عقله اللاواعي أن يصبح مثلها لربما ينجو من رتابة حياته المملة.
في خضم البحث عن الدافع الذي استيقظ لأجله، خوفاً من أن أسقط بصحبة صحن الدش كبرهوم؛ حيث إنّ لكل شخص صحنه الخاص! قررت ألّا أفكر وألّا أشغل عقلي بالتفكير عن الدافع؛ لندع الأيام تحدث وتنساب كما يحلو لها ربما يجدني بدلاً أن أجده.. وحدث.
تفاصيل كثيرة أدت إلى بعث شريط كاميرا قديم من مرقده، ووجدت نفسي فجأة أشاهدني حيّة أرزق أعيش في شتاء 2004 وكأني كنت أحتاج هذه الشرارة لأتذكرني. الهدوء وخفة الروح كانت مجسّدة على الطفلة التي كنتها، شعرت بغرابة شديدة وكأني أشاهد شخصاً لا أعرفه وأحاول التعرف عليه. أغني بهدوء وثقة عالية جداً، ألبي طلبات أخوتي الذين يرقصون على صوتي وكأني إذاعة F.M. أتنقل من أغاني نانسي عجرم ونوال الزغبي إلى أبطال الديجتال. لا أعلم لماذا تذكرت فجأة اسم ياسر الشمراني هل هو اسم لمذيع برنامج غنائي فيها أم أن ذاكرتي اختلقته؟ لا يهم..
أعود للطفلة التي شاهدتها بتجرّد وكأني لا أعرفها، تجلس بهدوء تضحك من قلبها، تلعب بهدوء ومرح دون أن تكترث بالخسارة بل توقفت لثواني وعدت وحملت أختي التي للتو تتعلم المشي وأصبحت أقفز على قدم واحدة بصحبتها لأنها كانت تضحك وتقفز في مكانها وعزّ علي ألا تشاركنا اللعب فقفزت معها حتى تعبنا وضحكنا معاً. هل لاحظتم كيف تغير الضمير في الجملة السابقة من المبني للمجهول للمتكلم؟!
تصورني أمي وأنا أذاكر وأحل واجباتي باستمتاع رهيب وقالت: “شوفو من يومها وهي تذاكر وربي مشغلها بنفسها” وعلى الرغم من كراهيتي لحقيقة المذاكرة المستمرة حتى هذه اللحظة إلا أنني سعدت وشكرت الله لأني مشغولة بنفسي. يدور حولي شقيقي يطلب مني أن أغني له أغنية وتجاهلته حينها لأن ريقي نشف لأن الإذاعة تحتاج تطلع فاصل، وبعد دقائق تصورني وأنا أحاول إرضائه وهو يرفض أن يلتفت نحوي! العجيب أن الأغنية التي كان يريدها هي: “دوري يا أرضنا الحلوة دوري.. كي يلتقي الأطفال دوماً ويشرق الحلم دوماً.. للآتي دوري” ذهبت أسمع الأغنية لأني نسيت كلماتها، فضحكت.. هو كان يدور حولي ويريد مني أن أغني دوري وأنا أكتب الآن لأني أريد التخلص من دوران ذهني.. يا للسخرية!
كل هذه المشاهد وأخرى غيرها احتفظ بها لشدة عذوبتها.. دلتني على غايتي في هذه الحياة والتي لطالما ما تحدثت وتكلمت عن هذه الفكرة كثيراً لكن لم أكن واعية على مدى تغلغل هذه الحقيقة بداخلي منذ زمنٍ طويل.. وإن لم أكن أعرف كيف لكن أنا التي أريد أن أحيا كل لحظات حياتي بملء قلبي.