نمط الحياة المتسارع اليوم يعد بيئة خصبة تحفز القلق والتوتر والاكتئاب لدى العديد من الأشخاص بشكل مضاعف مقارنة بالأجيال السابقة. ويعتبر التثقيف النفسي ضرورة ملحّة للتعامل الجيّد مع هذه المواقف لتجاوزها بشكل سليم مع المحافظة على صحة نفسيّة متوازنة بأكبر قدر ممكن دون أن تتفاقم المشكلة أكثر.
قرأت مؤخرا كتاب أسباب للبقاء حياً للمؤلف مات هيغ، يتحدث فيه عن تجربته الشخصية مع الاكتئاب والقلق ونوبات الهلع والوساوس التي أصيب بها وهو في الرابعة والعشرين من عمره وجمدّت حياته لمدة ليست بالقصيرة. الكتاب يعتبره دليل ومرشد يخبر من خلاله المرضى أنّ احتمالية النجاة والتعايش مع المرض ممكنة وأنّه كتب هذا الكتاب ليخبرهم بحقيقة مهمة وهي: أنّهم لا يعانون وحدهم. يعتبر الكتاب مدخل جيّد لفهم الإنسان لنفسه وكيف يتعامل معها بشكل سليم في الأوقات الصعبة وكيف يساعد من حوله بشكل صحيح. لغة الكتاب سهلة، وعفوية، وصادقة ومليئة بالكثير من المشاعر.
يبدأ الكاتب في الحديث عن بداية المرض معه، شعوره باللاجدوى وانعدام رغبته بالحياة بشكل مفاجئ. يصف كل ما مر به بالتفصيل وكيف أنّ من يعرفونه بشكل سطحي كانوا يصرّون على أنّه يبالغ ويدّعي المرض! وهذه مشكلة مهمة لأنه في بداية المرض تكون حالة جسدك المادية صحيّة تستطيع أن تمشي وتأكل وتتنفس فكيف يصدق الآخرون أنّك مريض. لحسن حظه تواجدت معه صديقته أندريا التي أصبحت زوجته بعد ذلك، منذ بداية مرضه وقدمت له كل الدعم والمساعدة والتفهم والحب والأمان حتى عندما بدأت تتطور الأعراض وعجز عن أداء مهامه اليومية، أندريا كانت الضوء الذي أخرجه من العتمة.
“لقد أغلقت أندريا كل الثقوب التي كان القلق والظلام يتسربان منها إلى حياتي. لقد كانت عقلي الثاني. كانت جليستي والنصف الثاني لي عندما غادرني نصفي. لقد قامت بالتغطية عن ذاتي الضائعة وانتظرت بصبر عودتي إلى نفسي وكأنها زوجة الجندي.”
من المشاكل التي وجد صعوبة معها هي أداءه المهام اليومية الروتينية التي اعتاد على فعلها قبل المرض، مثل الأكل، النوم، ذهابه إلى العمل، خروجه إلى الشارع وحده، ذهابه إلى متجر الحي، زيارات أصدقائه ومعارفه، التواجد في أماكن مزدحمة وغيرها. كل هذه المهام كانت ثقيلة عليه ولا يملك أي طاقة لإنجازها. لم يكن الأمر بالنسبة له حالة إحباط مؤقتة تتطلب وقت هادئ أو إجازة يستعيد فيها توازنه السابق، بل مرض يتطلب تدخل طبي لعلاجه.
“بالنسبة لمن حولك، يبدو الاكتئاب وكأنه مجرد وهم. وأنت تسير بينهم برأس محترق، ولكن أحداً لا يرى النيران وهي تلتهمك“
ينبّه الكاتب على ضرورة وجود وسط صحي داعم ومساند يحيط بالمريض، يذكّره أنه مرض يمكن علاجه مثل الزكام، يساعده ويشجعه خطوة خطوة لعمل كل ما اعتاد أن يفعله قبل المرض. فريقه كان من زوجته ووالديه، قدموا له الحنان والحب والعناية. وهنا نقطة مهمة أودّ أن أنبه لها وهي ضرورة التفهم والتقبل والاحتواء للمريض دون استخفاف بمشاعره أو بالمبالغة التي تنتج في ردود فعله نتيجة حدة مشاعره وانخفاض ثقته بنفسه وتقديره لذاته. بل يجب في هذه اللحظات أن يكون الشخص أمين وصبور ويمسك بيده ويساعده ليبصر الأمور كما هي دون أن يضخّم منها.
“لقد كشفني الاكتئاب تماماً. جعل عقلي عارياً. جعل شخصيتي مكشوفة“
عبّر عن الألم الذي سببه له القلق والاكتئاب بشكل عميق جداً. وصف كيف بدأ بالسيطرة على أفكاره واستبداله للطمأنينة بالشك. كيف يتغلغل في روحك ويبدأ بالتغذي على الحزن والخوف ويزيدها في نفسك إلى أن تحاصرك، ثم يبدأ بمقاومة كل لحظات السعادة والبهجة.. بل ربما يفسدها عليك لأنه يحب أن تكون ضعيف مستسلم له.
من الأمور التي أعجبتني بالكتاب وضعه لقائمة خاصة به تساعده في التقاط نوبات الاكتئاب في بدايتها ليسيطر عليها قبل أن تكبر. ووضعه كذلك لقائمة بالأمور التي ساعدته في اجتياز هذه الموجة: مثل المشي واليوغا والقراءة والكتابة وغيرها ليلجأ لفعلها كل مرة. بل أنّ اليوغا مثلاً أصبحت جزء من يومه يساعده في الاسترخاء الذهني والبدني والنفسي وفي الحفاظ على حالة الاتزان مدة أطول.
الكتاب بمثابة طوق نجاة يقدمه لكل شخص يرغب في عيش الحياة والشعور بها بكل خلاياه، يؤكد فيه أن الشفاء ممكن وليس وهم أو مستحيل .. والدليل على ذلك تجربته التي يشاركها معك.
“لقد اكتشفت خلال السنوات أن القراءة عن تجارب الاخرين الذين عانوا وتجاوزوا اليأس جعلتني أشعر بالاطمئنان. لقد منحتني كتاباتهم الأمل. وأتمنى أن يقوم هذا الكتاب بالشيء ذاته.”
مات هيغ اليوم متزوج من رفيقة دربه أندريا، أب لطفلين، ومؤلف لعدد من الكتب التي تهتم بالصحة النفسية، والروايات وقصص للأطفال. ووجد أسباباً تبقيه حيّاَ.
عائشة على القمر 