تسمع صوته في كل وقت، سمته لا تتغير.. طنين مستمر لا يصل بركضه إلى أي مكان. كل ما يفعله هو العصف المستمر على وتيرة ثابتة بدون كلل أو ملل. قد تسأل نفسك لماذا يدور في هذه الحلقة المفرغة؟ هل يهدف بضجيجه الوصول لمكان ما؟ هل يحاول بصوته خرق حاجز لا يكسر إلّا بهذا الصوت؟ فنداءه هذا ما هو إلّا محاولة استنجاد؟ ممّا يستنجد الصوت الذي يرغب الجميع بالخلاص منه؟!
تود أن تسأله هذه الأسئلة ربما تجد إجابة تساعدك في استيعاب زوبعته المستمرة أو تساعده في الخروج من هذه الدوران المتواصل. لا أوصيك بمواجهة هذه الدوامة، ستضيع فيها. لن تقتنع إذاً إلّا إذا جربت بنفسك.. حسناً هذا طبيعي جداً.
يبدأ الأمر بملاحظة الأصوات غير المعتادة، صوت الآلات العالي وهي تحفر وتكسر طبقات الأرض الصلبة، تسمع مرونة الأرض ثم مواجهتها الثابتة لمحاولات تحطيمك المستمرة، تكسرك ثم تعود بعد أن تفهم طبيعتها إلى أن تتفتت لتراب ويختفي حينها صوتك المزعج.
بعدها ستنصت لأصوات عديدة دون أن تحاول الإصغاء. ستميزها من بعضها صوت الثلاجة، المطحنة، الغسالة، مكينة القهوة.. ثم ستنتقل لمرحلة أشد تعقيد ستعرف الشخص الذي يستعمل كل هذه الأجهزة حسب شدة الضجيج. بعضهم خفيفين إلى حد أن حضورهم لا يلحظ، يمشون على أطراف أصابعهم، فكل ما يلمسونه يأخذ من طباعهم. والبعض حضورهم يصاحبه ثوران براكين، كل ما يمسكونه يحاول الهرب فيسقط من أيديهم أو يحاول الصراخ بطريقته. ثم تخف حدة الأصوات على سمعك لابتعادك عن مصدرها، فيوقظ حواسك صوت ميدالية مفاتيح خافت فتعرف من الذي خرج أو دخل إلى المنزل. سيصبح الأمر وكأنه محاولة لشحذ حواسك أو تمرينها بينما كل ما تريده هو الخلاص من هذا الضجيج.
ستقدّر اللحظة التي ينقطع فيها تيار الكهرباء فجأة بسبب الهدوء الذي يحل في المكان، تعود الكهرباء بعد مدة وتغلق كل شيء في محاولة الوصول لمستوى الهدوء السابق وتفشل. بل تنجح عندها في التقاط صوت الكهرباء وتعرف المقابس الأمنة من المهتزة المخلخلة من صوتها. أخبرتك أن الأمر معقد ولا أنصحك بمواجهته، لكن ..
هل تعتقد أنّ الأمر يقف هنا؟ بالطبع لا. ستسمع الكلام قبل أن يقال، ستتحدث مع المقربين منك في نفس الوقت بنفس الجملة وبنفس النبرة وفواصل الكلام. ثم تتبادل معهم نظرة أنت تقرأ أفكاري.. أقرأها ! بل أسمعها.
سيصل الضجيج إلى حد يقف فيه بينك وبين سمعك. ستسمعه في رأسك بشكل مستمر، تنسى ماهيّة الهدوء ولا تعرف كيف يمكن أن يصل المرء إليه. كل ما تتمناه في هذه اللحظة طريق يخرجك من هذه الدوامة، فتتحول لمصدر ضجيج.